يبهرك هذا الرجل ولا يحتاج إلي أن تصفه أو تروي عن انطباعك عنه فما أن يقع بصرك عليه تستقبلك عيناه في تحد يشع بالطموح الكبير والاصرار المدهش ويقفز في عقلك مباشرة أسئلة سريعة تتراكم في سرعة عن كيف يعيش ومن أين يأكل.. أو يدافع عن نفسه وفي المجمل بأي كيفية تسير حياة هذا الرجل.. وفي النهاية تعود بك الإجابات وترد بسلوكه الرصين وصوته الواثق وحركته التي لا تهدأ ومنطقه الرصين وارادته الحديدية البادية عليه, فلا نملك إلا أن تخلع عليه وسام الاحترام علي صبره وتحديه لكل العوامل التي كانت كافية ولن يلومه أحد إذا جلس في مكانه منتظرا عون الآخرين, ولكنه قبل التحدي واتخذ مكانه في صخب الحياة وأوسع لنفسه مكانا بل ونجح بمفرده في الحياة من دون الاعتماد علي أي جهة في الدولة. ولدت بين جدران الصمت, لا أنام إلا إذا طلع النهار وسمعت أقدام الناس تدب علي الأرض, وصوت إطارات السيارات يعلو من بعيد علي الطريق هكذا بدأ حديثه أحمد محمد علي أحمد40 سنة الشهير بفلفل والمقيم بمنطقة مدافن السيدة نفيسة, والذي استكمل قائلا كانت الحياة بلا صوت إلا الصادر عنا وبمرور الوقت تعرفت علي صوت حفيف الأشجار والحصي الذي ترفعه الرياح فيضرب جدران المدفن ونحن جالسون خلفه, ترتفع دقات قلوبنا ولا نعلم من الطارق, وميزت الخطوات السريعة من البطيئة من الأرض وكان نباح الكلاب في الليل هو الجرس المنبه لمن يسير في ظلمات المقابر وكأننا نعيش حياة الأفلام الصامتة وتوقف فلفل يسترد أنفاسه ونظر إلي أعلي وخفض صوته وهو يقول خيالات كثيرة وعذاب طويل لم يتركني طوال دقائق وساعات عمري كله منذ أن ولدت بأحد المقابر بمنطقة السيدة نفيسة ويرتفع صوته من جديد وهو يقول لم التفت لمن يريد تكدير حياتي وانما كانت أمامي غاية وهدف أريد الوصول إليه وأصررت علي ذلك وتتسع عينا فلفل ويضغط حروف كلماته قائلا: عملت في كل المهن وعندما كان يريد أن يسخر مني أحد كانت لحظة حاسمة ومغامرة جديدة لي, وكنت اتحداه أمام الجميع بجملتي الشهيرة لا تستطيع أن تبيع أفضل أو تكسب أحسن مني ومن هنا جاء اسم شهرتي فلفل في منطقة العتبة حيث كنت أعمل, وطوال عمري لم أمد يدي لمخلوق ولم استعن بإنسان لقضاء حوائجي ومتعتي في الاعتماد علي نفسي واعتبرت أن الله اختار لي النجاح يدفعني إليه طوال سنوات عمري, وتوقف حديث فلفل وشرب قليلا من الماء وظهر صوته عميقا مليئا بالشجن وهو يقول: حمدت الله كثيرا أن أوكل لي أن أتكفل بمصروفات أمي أعزها الله وشقيقتي الصغيرة ورزقني الله بزوجتي التي أحبها كثيرا وانجبت لي خمسة من الأبناء وأضحك كثيرا عندما ينظر الناس إليهم ثم إلي ويضحكون فالشبه بيننا متطابق, ولا أريد أن أزيد من هذه التفاصيل حتي لا يشعر أحد أني استدر احسانا أو أطلب عونا ولكن مشكلتي المزمنة هي ما أود الحديث فيه, وبدا صوته بطيئا وحزينا وكأنه يحاول كتم كلامه لا الافصاح عنه وقال: حلمت طول عمري بالمكوث في شقة سكنية بها جدران يعلوها الطلاء بخلاف أحجار المقبرة, أغلق بابها الخشبي بكالون عكس باب المدفن الذي يفتح لوائحه الحجرية لحضور الأهالي لدفن موتاهم, وبسبب عذابي في الاقامة وسط المقابر حاولت أكثر من مرة التقدم للحصول علي مسكن تابع لمحافظة القاهرة ضمن الحالات القصوي لكوني قزما تنطبق عليه شروط عديدة واستحق الكثير حسب القانون, ولكني أحفر في الصخر منذ صغري وتضاعفت المعاناة, بعد معاناة والدي10 سنوات قبل وفاته من المرض منذ1993 حتي توفي2003 وحتي الآن أنا المسئول عن عائلتي وطوال هذه السنوات أبحث عن الاستفادة من وضعي ضمن ال5% المعوقين دون جدوي بالرغم من وقوفي ساعات طوال وتغيبي كثيرا عن عملي للوقوف أمام الموظفين وكلها جهود بلا طائل ويتنهد فلفل ويمسح عرقه ثم يستكمل قائلا: علمت من أحد المعارف عن وجود شقة تابعة لإسكان محافظة القاهرة يدفع لها مقدم20 ألف جنيه, وبالفعل ذهبت لمشاهدتها وأنا أفكر كيف أتحصل علي هذا المبلغ الضخم لاتخلص من فزع ابنائي كلما أتي الأهالي إلي الأحواش لدفن موتاهم. ويتنهد فلفل من جديد في مرارة وهو يقول: اضطررت للاقتراض ودخلت في جمعيات لأجمع مقدم الشقة, وعلمت أن صاحبها تحصل عليها من اسكان المحافظة وهو لا يحتاجها وأنها مخصصة لحالات الخطورة الداهمة لأحد المتضررين بعزبة خيرالله, ولكني لم أشغل عقلي بهذا الأمر وبعد شهرين كنت أدبر نقود للقيام بدهانات للشقة فذهبت مع زوجتي وابنتي الصغيرة ليريا المكان الجديد الذي سنسكنه, ويخرج صوته بأشد انفعالاته قائلا: فوجئت بأسرة تقطن في شقتي ففزعت منهم وحدثت بيننا مشادة كلامية وزعموا في البداية أنهم أصحاب الشقة وعندما أخرجت أوراقي لهم في اليوم التالي تجمع حولنا الأهالي في مدينة6 أكتوبر بمساكن عثمان بلوك623 شقة21 وقالوا إنهم مؤجرون من نفيسة حسن إسماعيل وهي سيدة أرملة في سن الستين, فتوجهت معهم إلي قسم شرطة6 أكتوبر وحررنا محضرا وتمت احالته إلي نيابة6 أكتوبر وطلب رئيس النيابة استعلاما عن صاحب الشقة من الحي والمحافظة ولم يأت رد للنيابة فتوجهت أبحث عن حقي في حي مصر القديمة لأن المقاول الذي باع لي الشقة يتبع سكنه دائرة مصر القديمة, وتقابلت مع الموظف المسئول عن التسكين بالحي ويدعي شكري وسردت له ما حدث بالتفصيل, وصعقت من رده بأن هذه الشقة سلمناها إلي نفيسة وجايز ورق محمد الذي اشتريت منه قد احترق في احداث الثورة لأن الحي احترق بالكامل في الأحداث المذكورة وهنبقي نشوفها لك علي الميكروفيلم وسبني أسبوع وابتلعت رده الصدمة, وبعد أسبوع ذهبت إليه فقال لي هذا الوصل غير سليم فاتجهت إلي محافظة القاهرة, ووقفت أمام المحصل للأقساط وهو موظف اسمه نورالدين واعترف بأن الايصال سليم وأوراقي سليمة وقال لي أذهب إلي شكري مرة أخري وفتح دماغك معاه, ففهمت أنهما يوجهاني لأدفع رشوة فرجعت إلي مدير التسكين بالمحافظة سمير جاد فقال لي بالحرف الواحد اكتب طلبا وقدمه في خدمة المواطنين فقلت له نصا يا باشا ازاي الموظف تابع لكم والخطأ من عندكم والشقة حدث لها تسكين مرتين وسواء حدث حريق أم لا الشقة ورقمها مضبوطان وأنا تسكيني وورقي معتمد قبل تسكين نفيسة فرد في سرعة اكتب طلبا وقدمه لخدمة المواطنين مش موضوعنا فاستجبت لأمره وكتبت الطلب بالفعل ولم يحدث شيء وكلما رجعت إليهم ورأيت الموظف نور يقول لي مش قلنا لك روح لشكري ماروحتش ليه ويصمت فلفل ويطرق برأسه أرضا وهو يلتقط أنفاسه ذهبت إلي رئيس حي مصر القديمة منذ شهرين فرفض مقابلتي وكانت يدي تمسك أوراقي مدونة بها مأساتي وكنت قد أرسلت نسخة من الأوراق في رسالة بريد إليه ولكن دون جدوي ونشرت مأساتي في بريد احدي الجرائد ضد شكري وتعسفه وألاعيبه وكل ذلك دون جدوي ولم يتخذ رئيس الحي أي إجراء ضد خطأ الموظفين فلم أجد أمامي الا التوجه إلي مباحث الأموال العامة, فرحبوا بي واستمعوا إلي شكواي بدقة وقاموا باستدعاء الموظف نور وزميله شكري واستمعوا إلي أقوالهما وسألوهما عن الايصالات فأكدا أمام المحقق أنها سليمة, وزعم أنه لا يتذكر مكان الحافظة التي حفظ بها أوراقي. وقال نور أمام المحققين أنا عندي صورة من الايصال الذي دفع به محمد الذي باعني الشقة وادعي شكري أمامهم ورقي ربما يكون في حي دار السلام ولكن ورق فلفل سليم وشعرت أنه يقول ذلك ليخرج من القضية وتحولت القضية لاستكمالها في نيابة عابدين ومازالت تحقيقاتها جارية وسكت فلفل قليلا ثم قال في أسي للأسف الشديد لم تقدم لي أي جهة في الدولة أي عون وعندما قررت أن أسعي كأي مواطن لأحصل علي سكن تحايل علي الموظفون بالرغم من أن قرشي دفعته يعلم الله كيف تحصلت عليه وحسبي الله ونعم الوكيل, ومرت سنة في الشئون القانونية بين الحي والمحافظة والأموال العامة وتعبت بعد ضياع أملي الذي عشت أحلم به طوال40 سنة فأنا لم ارتكب خطأ واشتريت مثل ملايين المواطنين ولم أطلب من المحافظة أن تعطيني مجانا مثل من يأخذ وهو لا يحتاج ثم يبيع فأنا لا أريد إلا حقي. رابط دائم :