فارق كبير بين دعوات تطهير القضاء من خلال دعوات العامة وضغوطهم علي الحاكم, وبين أن يقوم القضاء بتطهير نفسه وتنزيه أحكامه عن أي شوائب أو شكوك تلاحقها وتنزيه رجاله عن شبهات التسييس ومد اليد والتزوير. كنا نتمني بعد الثورة أن يطهر القضاء نفسه بنفسه, لا أن تخرج مليونيات تطالب بتطهيره, بناء علي ما يشهده الناس ويتداولون أخباره مما يعتبرونه التواءات وانحرافات مست سمعة هذا الجهاز الحساس في الصميم خلال العامين الأخيرين, فضلا عن المخزون في الذاكرة الجمعية للناس لانحرافات بعض القضاة قبل الثورة. نحن الآن أمام خطين متصارعين, خط الثورة وخط الثورة المضادة, فأهل الثورة ينادون بانقلاب جذري علي أوضاع الدولة العميقة وتطهير جميع المؤسسات من رموزها ورجالها, ومنها مؤسسة القضاء بطبيعة الحال, وأهل الثورة المضادة يستدعون الماضي ويتحسرون علي أيام خلت ويصدرون للناس أن الثورة هي سبب مانحن فيه من بلايا ليترحم الناس علي أيام المخلوع, وقد نجحوا في ذلك نسبيا. أما حظ القضاء من هذا الصراع فيتضح في أن رجال النظام السابق وحلفاءه في مؤسسة القضاء يحاولون بكل السبل تمهيد الطريق لإعادة الأمور إلي ماكانت عليه قبل الثورة, مستغلين رخاوة قبضة النظام الحالي, ومتخذين من تفسير القانون, بأشكال متضاربة وغير مسبوقة, شماعة للمكايدات السياسية وتصفية الحسابات مع حكام اليوم والتيارات المساندة لخط الثورة. بدا ذلك واضحا في أمثلة كثيرة منها التحرك الأمني السريع لحماية مقر حزب الوفد عند الاعتداء عليه بالشماريخ وما تلاه من تلفيق قضية للناشط السياسي عبدالرحمن عز وإصرار النيابة والقضاء علي حبسه واستمرار حبسه علي ذمة قضية لاعلاقة له بها ولم يقم دليل واحد علي تورطه فيها, بينما تركت الأجهزة الأمنية مقار حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين في معظم المحافظات تحترق علي مدي ساعات وأيام دون أن يتحرك لها ساكن, وعندما قدم المجرمون للنيابة متلبسين بجرائمهم وأدوات إجرامهم من مولوتوف وخرطوش وأسلحة متنوعة تم الإفراج عنهم. تكرر الأمر ذاته في أحداث الاتحادية وماتلاها, وفي أحكام القنوات الفضائية التي تصدر ضد الإسلاميين بالحبس والإدانة وإغلاق القنوات وضد غيرهم بالإفراج واستمرار البث رغم أن الجرم قد يكون أبشع وأفدح, وهذا لايعني بالطبع أننا ندافع عن التجاوزات أيا كان مصدرها لكننا ضد تسييس الأحكام والكيل بمكيالين. وجاءت سابقة الإفراج عن رئيس مخلوع ثار عليه شعبه بعد انقضاء مدة الحبس الاحتياطي له بسبب تراخي القضاء في حسم قضيته خلال عامين, وما يذكره الناس مما كان يحدث في عهده من الإبقاء علي أناس أبرياء في الحبس الاحتياطي لمدد تتجاوزت العشر سنوات, ليثير تساؤلات حول سلوك النيابة والقضاء هنا وهناك, ويستثير غيظا مكبوتا عند كثير من الناس, خاصة أن من قرروا الإفراج عن المخلوع هم من كانوا يجددون الحبس للأبرياء في عهده دون سند قانوني, ليس بأشخاصهم بالطبع, لكنها نفس المنظومة التي مازالت تعمل حتي الآن. ربما هذه الأسباب وغيرها مما يراه الناس ويلمسونه في التواء الأحكام حسب الهوي السياسي للقاضي أو وكيل النيابة, وربما لفرط إحساس الناس عامة والإسلاميين خاصة بأن الثورة تسرق وأن قانون ماقبل الثورة هو الذي مازال يحكم ويقيد حركة النظام السياسي ويشل قدرته علي الفعل والإنجاز الثوري, ربما هذا هو ما دعا القوي الإسلامية للتنادي لجمعة العدالة أمام دار القضاء العالي أول أمس. وقد عبر عن هذا بوضوح الشيخ الداعية حازم صلاح أبو إسماعيل, مؤسس حزب الراية, صباح الجمعة في صفحته علي فيس بوك فقال: كنا قد أملنا أنه أصبح علي رأس السلطة من يدافع عن المظلوم ولن ينام الليل حتي يكف المظالم عن المظلوم إذا ما صرخ إليه... بين واقعة الشيخ جمال صابر وواقعة حركة أحرار وواقعة عبد الرحمن عز وواقعة الضباط الملتحين, والانتهاكات تنهمر انهمارا وتنتقي انتقاء وصور القهر والإذلال تتوالي. وتساءل أبو إسماعيل موجها حديثه للرئيس مرسي: هل تريدنا أن نتعامل معك علي أنك رئيس لا ننتظر ولا نرتجي من سلطانه نجدة ولا نعلق عليه أملا, أم أننا سنجد منك استجابة ولو من أي نوع أو بأي درجة؟. وبالنظر إلي أنه ليس هناك بشر معصومون علي وجه الأرض وأن مايحيط رجال القضاء به أنفسهم من هالة تقديس وأنهم فوق النقد والتجريح أمر لامحل له من الإعراب, لأن سيد الخلق المعصوم قالها بكل صراحة: قاض في الجنة وقاضيان في النار, بمعني أن ثلثي القضاة يقعون في دائرة الشبهات في كل زمان ومكان, فلماذا العنتريات الآن واستدعاء كلمات في غير موضعها من مثل ماقاله أحدهم بأن الاتهامات الباطلة الموجهة للقضاء من قبل البعض والدعوات المطالبة بتطهيره من خلال مليونيات, هي اتهامات باطلة وأصوات نكراء, تهدف إلي النيل من القضاء واستقلاله, وهدفها زعزعة ثقة الشعب في القضاء, والحقيقة هي أن الشعب بالفعل فقد الثقة بدليل أن عددا من القضاة غارق لأذنيه في الشبهات ويجيد لعبة الثورة المضادة, والشعب يعلم جيدا كيف تم تسييس جهاز القضاء عبر مايقرب من نصف قرن وتحديدا منذ مذبحة القضاة الشرفاء علي يد جمال عبدالناصر عام1969, وكيف أصبح أبناء القضاة قضاة وكذلك ضباط الشرطة الفاشلون, عبر وسائل غير شرعية وغير شريفة. هذا الجهاز بهذه التشكيلة المشوشة وبما يرتكبه من أحكام تصب في صالح الثورة المضادة وتسرق حلم هذا الشعب في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية يستحق فعلا التطهير, فهل سيكون خط البداية مليونية العدالة أم أننا سننتظر طويلا دون تحقيق العدالة برجال يتقون الله, وقضاء نظيف يحقق أهداف الثورة؟! [email protected]