لم يشأ أوباما أن يغادر إسرائيل.. محراب الكون وقدس الأقداس.. بنفسه وعقله وروحه وقلبه.. بحسه وشعوره ووعيه وخلجاته, بل بكل جوارحه, قبل أن يعلن دعوته الفجة لكل العرب يناشدهم فيها الرأفة والعون والرفق بتلك الدولة المستجيرة من الظلم العربي!! المناشدة للعالم استرداد حقوقها المغتصبة طيلة ما يزيد علي نصف قرن!! أقول إن أوباما, وفي زيارته الأولي في فترة رئاسته الثانية, قد جاء بالفعل ليتوج إسرائيل سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا, ويجعل منها في تلك اللحظة المعاصرة أسطورة لا تماثل داخل الكيان العربي, لكنها في الآن ذاته منفصلة عنه حضاريا, بل إنها تربأ بذاتها أن يكون أولئك العرب هم جيرانها الفعليون, من ثم كان لابد من التفكير عن تلك الخطيئة الكبري, بمعني أن تتقلص نوازع العداوة التاريخية لتتحول إلي صداقة حميمة, أي الدعوة إلي التطبيع, لكنه التطبيع غير السامح بالتوازي, تطبيعا يحكمه منطق أنوي أحادي استعلائي يضع العرب بأثرهم في مواضعهم المرذولة, وتظل إسرائيل لها الكبرياء في الأرض علي ا\لعرب وغيرهم.. لماذا؟ لأنها إسرائيل المدعومة منذ الأزل الأمريكي, وربما بعد زوال وانقضاء أمد الإمبراطورية الأمريكية في دورتها التاريخية التي تجلت في إرهاصات نهايتها!! لكن ما حاجة إسرائيل إلي التطبيع وهي في أوج عنفوانها, إلا حاجتها إلي الأمن والأمان؟ لكن ليس في ظل وجود سلام عادل يسمح لها بتطويق ذاتها عن استعراض بعض من قوتها الغاشمة علي من تطلب التطبيع معه!! ولعله ليست ثمة هواجس أو شكوك حول ما إذا كانت تتم الآن وبشكل ما محاولات اختراق لا سابقة لها في العالم العربي.. محاولات ذات وجه سياسي واقتصادي وإعلامي وثقافي وأمني, فماذا يعني كل ذلك؟ أو ماذا يعني تحديدا التطبيع الثقافي مع العدو التاريخي؟ وهل تجاوز الزمن هذا التساؤل؟ بمعني هل أصبحت مسألة العداوة التاريخية تدخل ضمن مؤشرات التخلف الجاثمة علي صدر الأمة العربية, لأنه بحكم التبادلات المعاصرة أصبحت للمصالح الأولوية المطلقة علي سائر المعطيات والممكنات, وأصبح التجاوب والتطبيع هو إحدي الضرورات التي تبيح المحظورات, وأيضا هل يحدث هذا التطبيع تكييفا خاصا في الساحة العربية بينما مخطط الاستيطان لا يهدأ وجرائم الاحتلال تمثل نماذج مثلي للبشاعة وإراقة الدماء.. لقد بات فريضة سياسية, والتهديد بأسلحة الدمار يعد مؤكدا لمنازل السيادة. وكذلك هل يمثل قبول التطبيع سياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا ازدواجية بالضرورة, لا لأن منظومة المصالح قد أصبحت ذات قوة عاتية لا يستطيع أي كيان بمفرده صدها, لكن للتطبيع الثقافي موقف آخر, إذ يرتبط في المقام الأول بالهوية والتاريخ, والشخصية القومية, وهما لا يقبلان التغيير والتذويب بحال, نظرا لاختلاف الطابع العام المنبثق عن التكوين المعرفي بأعمق معانيه, من ثم الموقف من الأشياء والكيانات, فالتطبيع الثقافي مع عدو هو ضربة قاسمة لتيار الوعي القومي, وعدم اعتداد بالعقلانية الصارمة, وإهدارلحقائق الماضي والحاضر, وإبادة للذات المستقبلية, وإن كان رفض هذا التطبيع لا يعني مطلقا جهل أو تجاهل ما يدور لدي الآخر في الساحة الثقافية من أفكار ورؤي وتوجهات ومواقف وفلسفات. إن التحدي الأكبر أمام محاولات التطبيع التي يطرحها أوباما من قبل إسرائيل, إنما يصطدم وسيظل بذلك السؤال المؤرق وهو: هل تستطيع الذاكرة العربية أن تمحو من ذاتها تلك الدلالات الفكرية المتجسدة في مذبحة الحرم الإبراهيمي, ومذابح صبرا وشاتيلا, وحريق الأقصي, وضرب المفاعل النووي العراقي, واختراق السيادة العربية برا وبحرا وجوا؟!.إن طبيعة الثقافة السائدة في الدولة العبرية هي ثقافة الإبادة والعنصرية التي لا تقبل مطلقا بالتعددية, وتنفي حق الاختلاف, وتروج للبلبلة, وإثارة القلاقل, لكن علي كل أولئك الذين يتحمسون لدعاوي التطبيع أن يخوضوا جيدا مع حركة المؤرخين الجدد المجتاحة ثقافيا للساحة هناك, والمؤرقة بأفكارها لإسرائيل باعتبارها حركة لها مصداقية عليا في المكاشفة والرؤية الموضوعية في الموقف من التاريخ الدموي للدولة العبرية, وهو ذلك التاريخ الزاخر بأخطاء وحماقات وكوارث تنافس شطح الخيال. رابط دائم :