لا غرابة أن تكون بانوراما الهزل السياسي هي المسمي الأنسب والأدق للقضية المتصدرة كونيا, والتي يلزم استبطان أغوارها ودخائلها وتفصيلاتها لاستكشاف الفروق الصارخة الدالة علي مدي معرفة وعمق التعامل والاستغراق مع بعدين أساسيين. الأول: المفهومات القائدة التي تسير العقل السياسي وتخضعه وتقوده نحو توجهات إيجابية للذات والآخر, أما الثاني فهو: المفهومات المقودة التي يقودها العقل, عاملا علي توظيفها وتوجيهها نحو المصالح والأهداف والأهواء بما يغاير معناها ويحيد عنه, وذلك في إطار تشويش مضموناتها وإقامة علاقات سلبية طابعها المغالطة والتضليل بما يسبب عبثية خاصة تؤثر في الوضع الكوني, وهو ماكان بالفعل إزاء الموقف من مفهومات مثل: القوة, والسيادة, والإرهاب, والفوضي الخلاقة, ونهاية التاريخ, وصدام الحضارات. ولعل فكرة المفهومات القائدة والمقودة هذه إنما تلتقي في كليتها بطبيعة ذلك الفارق الهائل بين معايير القوة وموازين القوة, فالأولي تعني إجتماع مفردات القوة كافة علي إطلاقها, من حيث تأكيد الشخصية القومية, والانطلاقه الحضارية علميا وتكنولوجيا, وسمو الوضعية الاقتصادية, وارتقاء درجة الوعي الأخلاقي, ومن ثم فالمفاهيم القائدة تكون هي الركيزة الباحثة عن مكامن القوي في الكيان السياسي من خلال طرح جديد لبرمجة معاييرها وتقنية التعامل معها منطقيا لتفهم معانيها كباعث علي اكتمالها ومنظوميتها , لذا فإنها سرعان ماتخطو بها نحو دوائر التخطيط الاستراتيجي المفزع والحائل دائما دون العودة للوراء, أما الثانية موازين القوةفهي التي لاتكترث بالمعايير, وتتجه في غاياتها ومقاصدها نحو دخول حلبة الصراع بلوغا لمدي التكافؤ في محاور القوة من خلال دعم اتجاه المنافسة والندية ومسايرة الجموح والشطط السياسي, ومن ثم فهي لاتمثل اتساقا ولا تكاملا لمعاني القوة, إذ إنها تظل تتمحور بين التفوق والإخفاق في امتلاك بعض أدوات هذه القوة, وهنا تتجلي سطوة المفهومات المقودة بكل فاعلياتها في العقل السياسي المترنح, بل وسيادتها علي عرشه, وكل ذلك أو بعضه هو ما أطلق صيحات التسلط السياسي التي اكتنفت جنبات عالمنا المعاصر, والذي قطع شوطا طويلا في محاولة تحقيق التكافؤ النسبي في موازين القوي, لكنه لايزال يفتقد الميثاق الأخلاقي والقيمي الفاعل في ترويض طاقات هذه القوة الطائشة, فدحر كل معني للانسانية حين ابتعد كثيرا وجانب ملامح النضج الذاتي والقوامة السياسية. لكن كيف بات العالم في بنيته الفكرية المعاصرة شغوفا بإتحافات الدمار متعجلا إيقاعات الفناء؟ بل كيف لم يعد يأبه إلا بفلسفة الخوف وإفشاء هالات الرعب وبث أهازيج العنف بينما مقاليد القوة لن تكون عاصما أو شفيعا إزاء موجات الاستعداء الكبري لتلك الكيانات اللاهثة وراءها والمهددة بوجود كيانات أخري تفوقها قوة, حتي إنها قد بلغت حد الفحولة النووية التي امحت معها سلطة قانون البقاء, بل كيف غاب ذلك المعني التاريخي الخالد عن ذهنية القرن الحادي والعشرين هو يرن محذرا سوف تصبح البشرية حدثا تافها كان لبرهة في الكون حسبما قال الكاتب البرتغالي الشهير جوزيه ساراماجو؟ كاتب ومحلل سياسي