لا يزال الربيع العربي حديث العالم في كل تجمعاته وتظاهراته, ومنها مهرجان مونتريال السينمائي الدولي الذي يختتم بعد غد الثلاثاء. ويتولي الفيلم التونسي الوثائقي الطويل ارحل أو الشعب يريد مهمة تمثيل الثورات العربية في المهرجان. حيث عرض- للمرة الأولي عالميا- في قسم نظرة علي سينما العالم التسجيلية بحضور مخرجه محمد الزرن.. وهو يعد- في حدود معلوماتي- أول فيلم تونسي تسجيلي طويل96 ق يوثق يوميات الثورة التونسية, التي اندلعت17 ديسمبر2010 علي خلفية إحراق البائع المتجول الشاب محمد البوعزيزي نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد احتجاجا علي سوء معاملته وصفعه من قبل إحدي موظفات البلدية التونسية. وبينما يذهب البعض إلي ان الثورة نجحت في14 يناير2011 بهروب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي إلي السعودية, يؤكد الفيلم, مثل معظم التونسيين, أنها استمرت بعد ذلك- وبصورة أقوي- لإسقاط الرئيس المؤقت راشد الغنوشي وحكومته, وتواصلت حتي انتخاب الجمعية التأسيسية واختيار المنصف المرزوقي رئيسا, مرورا بتولي فؤاد المبزع الرئاسة مؤقتا. ودعم الزرن فيلمه بشهادات عائلات الشهداء, خاصة عائلتي البوعزيزي وثاني شهداء الثورة حسين ناجي, بالإضافة إلي شهود عيان في عدة مناطق من تونس, ونقل صورة صادقة عن بعض الأحداث المأساوية والانفلات الأمني الذي ساد عقب تنحي الرئيس المخلوع عن السلطة. كما التقط مشاهد لمئات المتظاهرين الذين اعتصموا لعدة أيام في ساحة الحكومة في القصبة بوسط العاصمة قبل أن يتم إخلاؤها بالقوة. عرض الفيلم للمرة الأولي في ذكري استشهاد البوعزيزي يوم17 ديسمبر الماضي, أمام مقر ولاية سيدي بوزيد حيث أقدم علي إحراق نفسه, ثم في14 يناير الماضي أمام وزارة الداخلية التونسية, في شارع الحبيب بورقيبة الرئيسي بالعاصمة احتفالا بالذكري الأولي للثورة التونسية. وامتاز الفيلم, وهو اختزال لستين ساعة تصوير بكاميرا الزرن, بشهادات حية لمجموعة كبيرة من التونسيين العاديين البسطاء, والباعة الجائلين, والشباب العاطلين عن العمل الذين تقتصر أحلامهم علي أن يخدموا أي يحصلون علي وظيفة باللهجة التونسية, وكلهم أصدقاء لشهداء ضحوا بأرواحهم لينعم الشعب التونسي بالحرية والديمقراطية. ومن هؤلاء, نساء ورجال عايشوا وعرفوا الشهيد محمد البوعزيزي, وقدموه في صورة شاب دمث الأخلاق كان يجاهد لتحصيل قوت يومه من تجواله في شوارع المدينة وسوقها دافعا أمامه عربة خضر يبيعها ليعود إلي منزله حاملا قروشا ينتظرها أب وأم وإخوة يعيلهم جميعا. ولذلك يعتبر مخرجنا البسطاء الصناع الحقيقيين للفيلم. يقول إنها الثورة كما عايشتها وكما شاهدتها, لقد أردت أن أبرزها من خلال زاوية معينة, هي رؤيتي الخاصة للحدث, إذ اختلفت نظرة كل من صور هذه الثورة, وكل كانت له فكرته التي أراد أن يعبر عنها. لكن ما ميز الفيلم أنني نزلت بنفسي إلي الشارع والكاميرا علي كتفي لتصوير ذلك المشهد الثوري الذي أبدعه شعب تونس.. ورغم أنني كنت موجودا في أشد اللحظات حرجا, من غازات مسيلة للدموع وأعيرة نارية, فإنني لا أعتبر نفسي بطلا ولا حتي محررا لهذا الفيلم, بل أحسست بأنني مواطن تونسي بكل ما تحمل الكلمة من معان, والفارق بيني وبين من كان حاضرا في تلك الأماكن هو الكاميرا التي أعتبرها قلمي الخاص, هذا القلم الذي عانق شارع الحبيب بورقيبة والقصبة وسيدي بوزيد ليصور الأبطال الحقيقيين للفيلم, وكانوا متعاونين جدا معي رغم أن تلك الفترة عرفت عداء بين الشعب والكاميرا, حتي أنني عندما أغمي علي بسبب انفجار قنبلة غاز مسيل للدموع عند قدمي لم أجد إلا المتظاهرين ليمدونني بالإسعافات الكاملة, ويحموني. أهم ما فيلم ارحل, أو الشعب يريد) يحتوي التتر علي العنوانين(. أنه ينسب الثورة التونسية إلي أصحابها الحقيقيين من الشباب المكافح الباحث عن لقمة عيش شريفة, والذي كان يعاني الظلم والتعنت تحت حكم بن علي ونظامه.. وفي الفيلم حكايات موجعة عن الباعة الجائلين من أمثال البوعزيزي الذين كانت البلدية تتعسف معهم وتستولي علي بضائعهم وأهم وأغلي ما في جعبتهم) الميزان( بحجة عدم حصولهم علي التراخيص اللازمة للبيع في الشارع, علما بأنهم كانوا يحصلون علي بضاعتهم بالأجل, ويستأجرون العربة, أي لم يكونوا- في الحقيقة- يمتلكون شيئا. ويدين الفيلم محترفي اختطاف وركوب الثورات من الساسة ومسئولي الأحزاب, الذين يمدون أياديهم لقطف ثمار الثورة من دون مراعاة حقوق من زرعوها ورووها بدمائهم.. وتتجلي الإدانة في صرخة تطلقها خالة الشهيد البوعزيزي قائلة: لا نريد أن تقولوا أم الشهيد راحت وأم الشهيد جاءت.. نريد حقوق هذا الشهيد وإخوانه.. أما بائع الفول المعاق البسيط, فيطلق صرخة أخري معبرا عن حق الشباب في العمل, ويقول في النهاية: مش نبغي إلا نخدم.. لو ما نخدمش نموت.