حكي خبراء المال والاقتصاد في العالم وتحاكوا عن أزمة يمكن سرد عقدتها بلغة أرقام تبدو مذهلة.. بدأت الحكاية بانفجار فقاعة عقارات أمريكية حجمها أكثر من10 تريليونات دولار. فسقط العالم في هوة كساد استلزمت إنفاق أكثر من خمسة تريليونات دولار, وهي الأموال التي أشعلت في نهاية المطاف واحدة من أسوأ أزمات الديون السيادية في التاريخ. نهاية الفصل الأخير من هذه الدراما الاقتصادية العالمية, ألا وهي أزمة ديون منطقة اليورو, يعجز الجميع عن التكهن بها لأنها نتاج أزمة لا تتكرر إلا مرة واحدة كل مائة عام. فحتي الذهب أشهر ملاذ استثماري آمن علي الإطلاق أصبح واحدا من ضحايا أزمة منطقة اليورو.. ولكن كيف؟ خسرت الأسواق المالية خلال هذا الشهر وحده نحو4 تريليونات دولار من قيمتها جراء المخاوف من تداعي الاتحاد الأوروبي إذا خرجت اليونان من نادي اليورو, هذا الأمر دفع كثيرين إلي بيع ما في حيازاتهم من ذهب لتتقلب أسعاره بشدة. أكثر من ذلك فقد خفض البنك الدولي النمو المتوقع للاقتصاد الدولي إلي2.5% فقط هذا العام, بدلا من3.6%, أي أن الاقتصاد العالمي سيخسر من نموه ما يعادل تريليون دولار. وقد أسفرت أزمة الديون السيادية الأوروبية عن تشريد نحو25 مليون شخص في أوروبا بشكل مباشر, لترفع عدد العاطلين في العالم إلي200 مليون شخص. أما السيناريو الأخطر من ذلك كله فقد يحدث إذا صدقت المخاوف وطردت اليونان من منطقة اليورو وأشهرت إفلاسها بشكل فوضوي.. ساعتها فقط قد يدفع العالم كله خاصة الفقراء فيه ثمة تسونامي اقتصادي ربما يقلب الخريطة الاقتصادية, ومن ثم السياسية العالمية رأسا علي عقب. فتقرير البنك الدولي الجديد حول آفاق نمو الاقتصاد العالمي في عام2012 جاء متشائما علي نحو أشد مما عهد سابقا برأي عدد من المراقبين, إذ عدل البنك توقعاته السابقة لبلدان مختلفة من العالم, منها روسيا, باتجاه الخفض, فاقتصادات البلدان المتطورة سيتباطأ نموها حيث لن تزيد نسبة النمو فيها علي1.4%, والبلدان النامية ستقل نسبة نموها عن5.5%, أما روسيا فقد توقع البنك تباطؤ نموها الاقتصادي إلي نسبة0.3% مقارنة ب4.2% العام الماضي, وذلك بتأثير أزمة منطقة اليورو التي ستنسي مذاق النمو هذا العام, إذ توقع البنك انكماش اقتصادها. العلاج بالسندات المشتركة! يتنامي الحديث في الأوساط الاقتصادية والمالية العالمية, وفي كواليس السياسة الدولية هذه الأيام, بشأن ما يعرف بمقترح' السندات الأوروبية المشتركة', فقد أثار هذا المقترح واحدة من كبري موجات الجدل المالي والسياسي, وذلك بعد أن صوره البعض سياسيون وخبراء بوصفه' دواء ناجعا' لعلة المديونية السيادية الأوروبية, كما اعتبره آخرون سياسيون وخبراء أيضا ' سما زعافا' قد يقتل الطموح القومي الاقتصادي الأوروبي. وهناك من يطلق علي هذه السندات اسم' السندات الأوروبية المشتركة' أو' السندات الأوروبية الموحدة' أو' السندات الأوروبية' فقط أو' سندات الاستقرار المالي الأوروبي', وهي في الأساس عبارة عن سندات حكومية سيادية مقومة باليورو تقوم بإصدارها الدول السبع عشرة الأعضاء في منطقة اليورو, وطرحها في أسواق السندات العالمية, ومن ثم فإن هذه السندات بالنسبة للمستثمر العالمي عبارة عن آلية استثمارية في ديون أوروبية سيادية يقوم بموجبها المستثمر بإقراض مبلغ محدد من المال( قيمة السند) لفترة زمنية محددة( آجل السند) بفائدة محددة( سعر الفائدة علي السند). عملية الإقراض هذه ستجري لتكتمل الدول الأعضاء في نادي اليورو التي ستقوم بدورها بضخ هذه الأموال في خزائن الحكومات الأوروبية السبع عشرة. وقد اعتبرت هذه الفكرة واحدا من أهم الحلول الفعالة لأزمة منطقة اليورو التي صارت تهدد باحتمال تداعي اليورو الذي يعد الرمز النقدي الأكبر لأضخم اتحاد اقتصادي في التاريخ, ألا وهو الاتحاد الأوروبي, بل وربما بتداعي هذا الاتحاد نفسه الذي استغرق تشييد صرحه القومي أكثر من ستين عاما. الجذور التاريخية للمقترح في عام2010 نشر اثنان من الاقتصاديين هماJakobVonWwizscker وJacquesDelpla مقالة لحساب معهد أبحاث'Bruege' الذي يتخذ من العاصمة البلجيكية مقرا له, وهو معهد متخصص في القضايا الاقتصاية الدولية. هذا المقال أو تلك الدراسة تحمل اسم' مقترح السند الأزرق', وطرح المؤلفان فيها قيام الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بطرح سندات مشتركة موحدة جديدة زرقاء اللون تعمل جنبا إلي جنب مع السندات التقليدية الحمراء اللون التي تصدرها كل دولة علي حدة, وذلك لاحتواء التداعيات الراهنة لأزمة الديون السيادية, وللحيلولة دون تكرارها, خاصة في دول اليورو ذات الاقتصاديات الأكثر هشاشة, لكن المؤلفين شددا علي حتمية أن هذه السندات الزرقاء لن تكون بديلا عن مواصلة سياسات التقشف المالي: خفض الإنفاق العام, وتقليص العجز في الميزانية, وتعظيم القدرات التنافسية, وترشيد الإنفاق علي الرعاية الاجتماعية من سكن وتعليم وعلاج. لكن المؤلفين أقرا بأن هذه الآلية المقترحة لن تشكل حلا سريعا للأزمة, أي أنها لن تؤتي ثمارها سريعا, لكنها تشكل في الوقت نفسه حلا طويل الأجل لن يسهم فقط في خروج منطقة اليورو من معضلة أزمة الديون السيادية التي تعصف بها, وإنما سيسهم أيضا في تمهيد الأرض لصعود جبار للعملة الأوروبية الموحدة وجعلها عملة احتياطreservecurrency قادرة علي زعزعة عرش الدولار بوصفه عملة الاحتياط الأولي علي مستوي العام حاليا علي حد قولهما, كما ستؤدي هذه' السندات الزرقاء' إلي خفض تكاليف الاقتراض بالنسبة للسواد الأعظم من الدول الأعضاء السبع عشرة في تكتل اليووو. ويقضي اقتراح المؤلفين بقيام دول الاتحاد الأوروبي الأعضاء في منطقة اليورو بطرح ما قد يصل إلي ما يعادل60% من ناتجها المحلي الإجمالي' الناتج المحلي الإجمالي هو قيمة ما ينتجه المجتمع من سلع وخدمات خلال فترة عادة ما تكون سنة) من ديونها في شكل دين سيادي رئيسي مجسدا في صورة سندات سيادية مشتركة, علي أن تكون هذه السندات هي السندات الرئيسية للدول المشاركة فيها, ولا مانع من أن تكون لكل دولة سنداتها الخاصة, علي أن تكون في مرتبة تالية, واقترح هذان الخبيران الاقتصاديان إقامة مجلس مستقل للاستقرار الماليIndependentStabilityCouncil يجري اختيار أعضائه عبر برلمانات الدول الأعضاء, علي أن يتولي هذا المجلس تحديد كمية السندات الجديدة التي يسجري طرحها سنويا, وصيانة المسئولية المالية خلال عملية الإصدار. المفوضية الأوروبية.. تريد حلا في الحادي والعشرين من نوفمبر من العام الماضي, اقترحت المفوضية الأوروبية قيام الدول الأعضاء في نادي اليورو البالغ عددها سبع عشرة دولة, بإصدار سندات مشتركة بوصف هذا الأمر حلا فعالا لأزمة الديون السيادية التي تعصف بالمشروع النقدي القومي الأوروبي, وفي الثالث والعشرين من نوفمبر الماضي عرضت هذه المفوضية ما سمي ب الورقة الخضراء جري فيها تقييم الجدوي الاقتصادية والمالية لإصدار سندات سيادية أوروبية مشتركة ومقومة باليورو, يجري تقاسم عائداتها وتكاليف إصدارها بين الدول المشاركة فيها, وقد تم في هذه الورقة الخضراء طرح ثلاث مقاربات أو خيارات لعملية إصدار هذه السندات المشتركة.. منها: 1 قيام الدول السبع عشرة الأعضاء في منطقة اليورو بإحلال السندات السيادية المشتركة الجديدة محل كل سنداتها الوطنية الحالية, مع التزام كل الدول بضمانها, وتعتقد المفوضية الأوروبية أن هذا الأمر ستكون له تداعيات إيجابية للغاية بالنسبة إلي استقرار وتكامل دول المنطقة, فهذه المقاربة حسب اعتقاد المفوضية ستؤدي إلي تقليص الضغوط المالية الجبارة التي تعانيها دول نادي اليورو الهشة اقتصاديا عندما تضطر إلي الاستدانة من أسواق السندات العالمية, فهذا الخيار سيؤدي علي الأرجح إلي خفض أسعار الفائدة الفاحشة التي تضطر هذه الدول إلي دفعها عندما تضطر إلي إصدار سندات وطرحها في الأسواق العالمية, لكن المفوضية أشارت إلي أن هذا الخيار قد يتطلب إجراء تعديلات علي معاهدة الاستقرار المالي الأوروبية. 2 يتمثل الخيار الثاني في طرح هذه السندات الجديدة مع الإبقاء علي السندات الوطنية الراهنة, لكن المفوضية لم تحدد نسبا بعينها في هذا الخصوص, سواء للسندات التقليدية, أو السندات الجديدة المقترحة. 3 قيام الدول الأعضاء في منطقة اليورو بطرح سندات مشتركة مع عدم الالتزام بضمانها ضامنا مشتركا. حجج المؤيدين للفكرة يقول المؤيدون للفكرة وعلي رأسهم الرئيس الفرنسي الجديد فرانسوا أولوند إن ما يحدث الآن في أسواق المال العالمية أن كل دولة بمنطقة اليورو تصدر سندات خاصة بها, وهو الأمر الذي يجعل من السهولة بمكان بالنسبة لما يسمي بذئاب الأسواق أو المضاربين الجشعين( خاصة الدول الأوروبية ذات الاقتصاديات الهشة مثل اليونان) الاستفراد بهذه السندات واحدة بعد أخري, ثم المضاربة علي تهاويها لإجبار الحكومات المصدرة لها علي دفع فوائد فاحشة علي ديونها. لكن من شأن إصدار سندات أوروبية مشتركة أن يجعل لدي منطقة اليورو سوق سندات ضخمة قد يصل حجمها إلي أكثر من34 تريليون دولار, ومن ثم سيكون من المستحيل علي من يوصفون بذئاب الأسواق من المضاربين افتراسها بسهولة, وهو ما يعني حسم المعضلة الكبري التي تشكل عصب أزمة الديون السيادية الأوروبية. كما أن هذه الخطوة وفق هؤلاء ستبعث برسالة تتحرق أسواق المال العالمية شوقا إلي تلقيها, وهي الرسالة التي يقول فحواها: إن دول مجموعة اليورو بدأت أخيرا تعي دروس هذه الأزمة بمضيها قدما علي طريق توحيد السياسات المالية, بدلا من التشبث الأعمي بالمصالح القطرية الأنانية. المعارضة الألمانية لكن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عارضت ومازالت هذا الطرح وسط تأكيد خبراء في حكومتها أن بلادها ستخسر مليارات الدولارات إذا قررت أن تذوب سنداتها السيادية في سندات أوروبية مشتركة, ولسان حالها يقول: لماذا يتعين علينا أن ندفع ثمن السفة المالي للآخرين؟ لكن في المقابل هناك من يرجح أن يضطر الصقر الألماني إلي تليين مواقفه وتبني حل وسط سياسي واقتصادي, مما يمكن أن يتناغم مع موقف الرئيس الفرنسي الجديد, لأن الأمر قد يصل ببساطة إلي اضطرار الصقر الألماني للاختيار بين تجرع هذه النوعية من الحلول المرة, أو المخاطرة بهدم صرح المشروع القومي الوحدوي الأوروبي, وهي مخاطرة تبدو مروعة. ويعتقدhans-WernenSinn الباحث في معهد آي إف أو للأبحاث الاقتصادية, الذي يتخذ من ميونيخ مقرا له, أنه في حال موافقة ألمانيا علي هذا المقترح فإن دافع الضرائب الألماني سيتكبد خسارة تتراوح بين33 و47 مليار يورو سنويا, ولعل هذه النوعية من التقديرات ما تجعل ميركل تخشي أن تدفع في صناديق الاقتراع ثمنا باهظا لأي تحرك في هذا الاتجاه. لكن في المقابل هناك من الخبراء أمثالHenrikEnderlein وGustavHorn من مؤسسةHertieSchoolofGovernance يؤكدون أن ألمانيا لن تتضرر بهذه الصورة المروعة عند إصدار هذه النوعية من السندات, إذ لن تزيد كلفة الاقتراض بالنسبة لألمانيا علي نحو0.8% فقط, بل إن خبراء تحدثوا عن إمكان أن تكون ألمانيا من أكبر المستفيدين من هذه السندات. وفي المقابل فإن المفوضية الأوروبية تقول علي لسان رئيس باروسو إن ألمانيا لا تعارض فكرة السندات الأوروبية المشتركة من حيث المبدأ, لكنها تعتبر أنها فكرة طرحت في التوقيت الخاطئ.