مصر فضلت أوروبا عن قلبها الجنوبي.. ولابد لها من تصحيح الوضع الإفريقي أرض التراب والأزهار.. المدينة الخضراء.. البوابة المفتوحة إلي المقامرات والسفاري.. هكذا يطلقون عليها. ساعة ونصف ساعة كانت كفيلة بأن تنقلنا من مطار العاصمة الإثيوبية أديس أبابا إلي مطار جومو كينياتا. تري ما الذي تخفيه لنا تلك الأرض البكر التي تحمل طبيعة عذراء؟ ماذا سنكتشف من خلف تلك الواحة الساحرة التي تحمل بين أرجائها صفحات مياه بحيرة فيكتوريا التي تمدنا ب14% من مياه نهرنا العظيم؟ هي.. أرض الزعيم الاشتراكي جومو كينياتا الذي ربطته بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر صداقة عميقة انعكست بقوة علي العلاقات التي اتسمت بالقوة والصداقة ما بين الشعبين المصري والكيني.. فكان الألم واحدا.. والفقر والجوع والهم واحدا. وهي تلك الأرض نفسها التي كانت من أوائل الدول التي بادرت بالتوقيع علي الاتفاقية الإطارية التي تعيد توزيع حصص مياه النيل ما بين دول المنبع والمصب. هي الدولة نفسها التي قبلت التوقيع دون موافقة مصر وكما يقولون ما خفي كان أعظم. هي ببساطة كينيا التي رحلنا إليها لتكون محطتنا الثانية في دول منابع النيل. مع أول جولة لك في شوارع العاصمة الكينية نيروبي يتسرب إليك إحساس بأنك في القاهرة.. تشبهنا كثيرا خاصة عندما تجد نفسك واقفا في إشارة مرور لأكثر من نصف ساعة.. الضوضاء والازدحام عاملان مشتركان بيننا اللهم إلا تلك الزخات الثقيلة من الأمطار والتي تغتسل معها من شدة حرارة الجو ربما تكون هي الفارق الوحيد بين البلدين. أيضا تستطيع وبسهولة أن تعرف الفارق الشاسع بين العاصمة الإثيوبية أديس أبابا ومثيلتها الكينية نيروبي, وإن كانت المقارنة بالتأكيد لمصلحة الثانية التي من الواضح أنها قد سبقت العديد من الدول الإفريقية, ولحقت بقطار التقدم والنهضة, ليس في مجال العمران فحسب, بل في المجالات الاقتصادية والاجتماعية أيضا, وإن كانت إثيوبيا بدأت تضع أقداما بحرفنة وذكاء علي سلالم النهضة. وقد تتغير للنقيض تماما, بل يمكن لها أن تسبق العاصمة الكينية.. أعترف أنني منذ اللحظة الأولي التي حطت قدماي فيها علي أرض العاصمة الكينية ولم يكن يشغلني سوي أمرين إذا كان موقع مصر ودورها الاقتصادي والحيوي جاء هزيلا متقلصا في بلاد الحبشة التي كما قلت إنها تمس أمننا القومي, وتظل حتي الفناء أهم دول حوض النيل بالنسبة لنا فتري أين نحن في بقية الدول, والتي تشكل لنا أهمية أيضا مثل كينيا التي نستمد منها كما قلت 14% من مياهنا التي تصلنا من بحيرة فيكتوريا رأسا؟ وإذا كانت إسرائيل وهي لاشك ستظل حتي الفناء هي الأخري عدونا اللدود, إذا كان لها وجود قوي في إثيوبيا, فماذا عن وجودها في كينيا؟ وإلي أي حد وصلت العلاقات الإسرائيلية الكينية؟ هذان الأمران هما اللذان شغلاني وحاولت الإجابة عنهما من خلال بعض اللقاءات مع المسئولين الكينيين التي نظمها لنا أحمد حارس القائم بالأعمال في سفارتنا بالعاصمة الكينية نيروبي. المصادفة وحدها هي التي جعلتني أجيب عن السؤال الثاني الذي للحق لم أجهد كثيرا من أجل الإجابة عنه, ألا وهو الدور الإسرائيلي في كينيا؟ موي راؤول أحد أهم الشخصيات الاقتصادية, وأحد أبرز رجال الأعمال الكينيين, والده كيني, ووالدته من أصل هندي, عاش منتصف عمره في الهند, ثم استقر مع أسرته في كينيا, بدأ حديثه معنا قائلا: الاقتصاد الكيني مفتوح وتنطبق عليه صفة الليبرالية, لكنه في قبضة الهنود واليهود, والهنود لأنهم هنا منذ زمن, وتحديدا منذ فترة الاحتلال الإنجليزي لبلادهم عندما كانوا يأتون إلي كينيا للعمل في مجال البناء ولم يعودوا بل استقروا وكونوا عاصمة تجارية في هذه الأيام, بينما لم يكن من حق الأفارقة فتح حساب لهم في البنوك, لذلك فإن الوجود الهندي هنا ضروري للاقتصاد, بل هو تاريخي. قاطعته قائلة: وماذا عن اليهود؟ أجابني دون تردد: مبدئيا الوجود الإسرائيلي هنا منذ أيام الاستعمار لدينا يهود من أوروبا الشرقية, ومواطنون فروا من الحرب العالمية الثانية واستقروا هنا كرجال أعمال, وهذا لا ينفي أن العلاقات الكينية الإسرائيلية علاقات جيدة, خاصة في السنوات الأخيرة, وأنهم يقدمون للشعب والحكومة الكينية المساعدات وليس في الاقتصاد فحسب, وعلي سبيل المثال لا الحصر يساعدوننا في مجال البناء والتجارة والزراعة وسلاح الطيران, والأهم من ذلك كله أنهم يقومون بتدريب عناصر من الجيش الكيني ويشرفون عليه, هذا غير أن كبار الدولة يستثمرون أموالهم داخل إسرائيل نفسها, وإذا كانت كينيا تحتل المركز الثاني في العالم بتصدير الورد بعد هولندا, فإن هذا يرجع لفضل الإسرائيليين الذين أدخلوا الطرق الحديثة للري بالتنقيط والآليات المتطورة لزراعة الورد, وأيضا لا أحد يستطيع أن ينكر دورهم في الطفرة الكبيرة التي حدثت للخطوط الجوية الكينية بعد أن دخلت شريكا وتم التحديث والتطوير إلي أن أصبحت شركة تنافس خطوط الطيران العالمية. قبل أن ينهي جلستنا معه سألته سريعا عن الدور المصري في كينيا من وجهة نظره كرجل اقتصاد؟ أجابني: أعتقد أنه ليس ملحوظا, ولا أبالغ عندما أقول إن مصر في أثناء الفترة الماضية, وتحديدا في زمن رئيسكم السابق, قد اضمحل دورها تماما, ليس في كينيا فحسب, بل في كل إفريقيا, وأنا رجل أعمال وأعرف ما أقوله جيدا, أنا علي علم تام بأن رجال الأعمال المصريين إلا قلة قليلة منهم فضلوا استثمار أموالهم في القارات الأخري مثل أورويا وأمربكا, وهناك أيضا رءوس أموال مصرية كثيرة تستثمر في إسرائيل نفسها, برغم علمي بالتاريخ الذي يربط بينكم وبينهم. لكن ما أقصده أن مصر لم تختر إفريقيا لتحتل في أسواقها نصيبا من الاستثمارات, وهذا ما لا نتمناه بعد ثورتكم التي غيرت وقلبت الموازين, بالعكس مصر لها تاريخ مشرف, ورصيد لا يمكن أن تنساه كل الشعوب الإفريقية التي وقفت مصر بجانبها أيام الاستعمار, والفضل بالطبع يرجع لسياسة زعيم إفريقيا الذي لا ينسي جمال عبدا لناصر. تركت موي رجل الأعمال الكيني الذي ربما أضاء لنا العديد من الأمور لاتجه إلي علي ماكويري وزير التجارة والصناعة الكينية الذي ربما يجيب بشكل أكثر عمقا وتخصصا علي أسئلتنا.