فكر الرياضيات عند قدماء المصريين كان عنوان المحاضرة الرصينة التي ألقاها الدكتور فتحي صالح( الرئيس الشرفي لمركز التراث الحضاري والطبيعي) بدعوة من قسم علوم المواد بالاشتراك مع الجمعية العربية لعلوم المواد في رحاب جامعة الاسكندرية. اللقاء كان بمثابة رحلة مثيرة في تلافيف العقل المصري القديم, وكيف كان يفكر ويعمل ويبدع, حين استخدم المصريون القدماء أسس الرياضيات في الحسابات الفلكية التي ارتبطت بعباداتهم القديمة, كما ارتبطت برزقهم وطعامهم وفيضان النهر, فقسموا العام إلي ثلاثة مواسم هي شهور الفيضان تليها شهور الزراعة, ثم شهور الحصاد, وكانوا يعتمدون علي أسس الحسابات الهندسية لقياس الأراضي ومسحها وترسيمها بعد كل فيضان( حيث كان الفيضان يغرق الأرض فيطمس المعالم والحدود, واتقنوا أسس الحساب البحتة لتقدير الضرائب والمحاسبة وحفظ الأنصبة والحقوق. بينت البرديات القديمة أن المصريين القدماء كانوا يتبعون النظام العشري, وهو العد بالآحاد والعشرات والمئات( ربما مأخوذ من العد علي أصابع اليد العشرة), وكانوا يستخدمون الصور والرموز لتدل علي الأرقام, فالخط الملتوي يمثل العشرة, واللفافة تمثل المائة, والعصا وعليها دائرة ناقصة تمثل الألف, وهناك رجل رافع يديه للسماء يمثل المليون( بالقطع شاكرا فضل الله عليه). المدهش أنهم طوروا المعادلات الرياضية لحل المسائل بمجهول ومجهولين, كمل أنهم عرفوا أنواعا مبسطة من المتسلسلات والمتواليات الحسابية والهندسية, استخدمت فيها الكسور, وكانوا أيضا علي دراية بالجذور التربيعية. وتسجل بردية رايند التي كتبت منذ ما يزيد علي3700 بالتحديد عام1660 قبل الميلاد), شرحا لمباديء تعليم الرياضيات عند المصريين القدماء من خلال87 مسألة محلولة, تشمل المسائل كيفية حساب المساحات الهندسية بطريقة بسيطة وفعالة, وهي تحويلها إلي الأشكال المربعة, فتتم مثلا مضاعفة مساحة المثلث ليتحول إلي مربع حيث يسهل حساب مساحة الشكل المربع ثم اعتبار نصف مساحة المربع هي مساحة المثلث, وبنفس المنطق والاسلوب يتم تحويل الدائرة إلي مربع وتحديد العلاقة بين طول ضلع المربع وقطر الدائرة, واستخدموا كذلك في حساب مساحة الدائرة قيمة قريبة من الثابت( ط), فضلا عن طرح العشرات من الاسئلة الرياضية وشرح أجوبتها التفصيلية. وتحتوي هذه اللفافة الفريدة التي يبلغ طولها نحو خمسة أمتار علي معظم ما هو معروف الآن عن الرياضيات في مصر القديمة. ما يبهرك إلي جانب النواحي العلمية أن تلك البردية تحتوي علي إشارة إلي بردية أخري كتبت قبلها بأربعمائة سنة, حيث كانت مصدرا لبعض المعلومات المنقولة عنها في لفتة تبين أصول الخلق العلمي القويم وتستحق التقدير والاحترام. عرف المصري القديم عمليات الجمع والطرح, مثلما عرف الضرب والقسمة, بطريقة عبقرية حيث كان يقوم بتحليل الأرقام إلي عناصرها الأولية ومعالجتها بطريقة بيئية بسيطة للحصول علي النتائج الحسابية بيسر وسهولة. المذهل أن الطريقة التي ابتدعها العقل المصري في عصر الفراعنة هي نفسها المستخدمة الآن في نظم الحاسوب بعد آلاف السنين!! أثارت المحاضرة الثرية شجونا وخواطر عديدة اخترت من بينها ثلاثة ملامح: أولها, انه توجد ست برديات تتعلق بالتراث العلمي للرياضيات في زمن الفراعنة, كل منها تحتوي علي مجموعة فريدة من المسائل والمعضلات وحلولها الرياضية, كل هذه البرديات الست في خارج مصر, أشهرها بردية رايند المعروضة بالمتحف البريطاني. رايند هو سائح بريطاني اشتري تلك اللفافة من فلاح مصري بسيط في الأقصر, لم يدرك الأخير أنه يبيع جزءا من تراث بلاده العلمي من أجل قروش معدودة, فكيف يمكن توعية الناس بفحش مثل هذا الجرم( والذي مازال يشكل تجارة منظمة في مصر العليا)؟ وإذ فهمنا لماذا يفعل الفلاح المعدم الجاهل ذلك رغم ادانتنا لهذا الفعل ماذا عن الموسر المتعلم الذي يرتكبه وهو يدرك فحش جرمه بقلب بارد؟. ثانيها, أليس مذهلا أن يكون لدينا كل هذا التراث الحضاري الهائل, ولا يعلم عنه أبناء وبنات هذا الوطن شيئا؟ ألا يبعث فيهم التعرف علي هذا التاريخ جذوة الاعتزاز بالأجداد وروح الفخر والانتماء؟ ألا يثير ذلك فيهم حب العلم الذي حادوا عنه؟ وأين برامج التعليم التي تلقي الضوء علي هذا الانجاز الحضاري؟ ثالثها, تتعلق بدعائم الحضارة المصرية القديمة, حيث قامت تلك الحضارة علي العلم والعقيدة, فالمصري القديم شيد دولته علي قاعدة قوية من المعرفة, وطوع المعرفة في هيئة أدوات ومهارات وتدريب, وطوعها للبناء والعمل الجاد, وتمثل جزءا من عقيدته في المشاركة والبناء والعطاء والتفاني في العمل. مصر دولة إنسانها طيب, مؤمن, خلاق, مبدع, جذور الحضارة ضاربة فيه منذ فجر التاريخ, يستحق قائدا مخلصا صادقا رشيدا حكيما أمينا, يجمع الناس علي كلمة سواء, يسعي لتحقيق العدل, وإطلاق الحرية, وتوفير العيش الكريم.فهل هذا بالمطلب العسير علي الشعب العظيم؟ جامعة الإسكندرية