حملت كعادتها أقفاص الطيور فاليوم موعد السوق وفيه الرزق الوفير.. تبيع الدجاجات التي كبرت وارتضت ببقايا الطعام.. فهي لا تقدر علي شراء علف للطيور.. ضوضاء في البيت. وصراع لا غلبة فيه لأحد بين أفراخ الكتاكيت والأولاد الصغار.. ينتهي حين يكبر الأولاد والدجاجات.. تختبئ من وطأة الأيام خلف وشاح الصمت.. تتراكم لديها الحكايات التي لا تبوح بها.. تتدثر بالأمل.. لا ترهبها زخات المطر المؤلمة المتساقطة من سقف الحجرة.. بعد أن زحزحت فرشة نومها ونوم الأولاد بعيدا عن تساقط المطر.. لديها طاقة من الصبر تدفعها لإغلاق منافذ الوجع بإحكام.. تتسكع علي أبسطة الذكري في زوج خطفه الموت في ضربة مؤلمة مع المرض.. أحبته وأحبها.. كانت تشرق منه وتغرب فيه.. ذاقت المراره بعده.. وزارتها الكآبة.. ستشتري الليمون الذي يحبه الأطفال في شراب السكر.. وكل ما يشتهونه من شراب أو مأكول.. أسئلة الأطفال لا تنتهي.. لماذا يموت أبي.. وتموت السمكة اذا خرجت من الماء.. ولماذا لا نرتدي الملابس الجديدة في العيد كباقي الأطفال..؟! تمتلئ جعبتها بالأسئلة الصعبة التي تتشابه مع قسوة الأيام.. تعد العشاء كل ليلة للأولاد وللطيور.. تنشر ابتسامتها وعطرها في الأنحاء.. روحها مفعمة بالرضا والطمأنينة.. لا تعرف الذبول.. تواجه كل أنواع الجدب والعقم.. لديها طاقة من الحب.. ثابتة كحشائش الأرض.. تحميها من الصدمات المفاجئة.. تنتابها للحظات مخاوف نتيجة الإجهاد والشعور بالوحدة.. وجفاف الدنيا.. تكافح من أجل الصغار.. تخفي دمعاتها بعيدا عنهم.. برغم محاولتها اليائسة في قبض الدموع.. استجمعت قواها علي المواجهة حين دار بها الزمان واستدار.. لا يغيب وجهها المشوب بالصفاء في زحمة السوق.. ابتسامتها مفتاح الرزق الوفير.. الجميع يحبونها.. لا تجادل كثيرا.. بعض باعة الطيور.. يضعون أمامها أقفاص الطيور لبيعها.. ويقتسمون معها حصيلة البيع.. لأنها الأكثر ابتساما.. وكأنها قرأت وهي التي لا تعرف القراءة والكتابة الحكمة الصينية التي تقول: اذا كنت لا تقدر علي الابتسام.. فلا تفتح متجرا.. كثيرون يطلبونها للزواج.. لأنها مازالت تحتفظ ببقايا حسن وملاحة.. بالإضافة الي حسن الخلق.. ويظل الرجل المرتقب لا يأتي.. وهي التي عاشت مع زوجها علي ضفاف الوداعة.. وموارد روحه.. قلبه مثل الطير والورد.. لا يطلق أشرعته إلا في اتجاهات الفرح.. افتقدت في رحيله انشودة البساطة.. تقاوم ليل الرماد الطويل.. تفتح الأبواب والنوافذ البعيدة كي يدخل الصباح حاملا أنفاسه الجديدة.. الأرض كانت واسعة.. أكثر اخضرارا.. وفضاء الكون أرحب.. العيش كان أطيب.. الجار يحب جاره ويقص عليه الحكايات.. ويسأل عنه عند الغياب.. كانت البيوت آمنة دون باب أو حجاب.. تعود الي المنزل حاملة الحلوي للصغار.. صابر سيذهب الي المدرسة في الغد للمرة الأولي.. ينتعل حذاء جديدا ومريول نظيفا.. لكنه كالجديد.. وحقيبة تخلي عنها صاحبها حين انتقل الي مرحلة تعليمية أكبر.. سيشتري الحلوي له ولأخوته.. من أول مصروف يحمله.. ثروات العالم أجمع عاجزة عن شراء ذلك الشريان الذي ينبض بالحب والفرح الحقيقي كالذي تحمله أم صابر.. التي لا تدري شيئا عن الأسئلة من حولها.. أين لبائعة الطيور.. رغم قسوة الأيام.. كل هذا الابتسام..؟! محمد محمود غدية/ المحلة الكبري