لم يستطع كبح انفعالاته الداخلية امام هجمة أنوثتها المتوثبة لدرجة الاشتعال الذي تكاثف بخارا كسا زجاج المقهي كله ونظارته التي حجبت عنه الرؤية.. أخرج منديلا ورقيا وبدلا من أن يمسح زجاج نظارته.. أخذ يمزق المنديل إلي قطع صغيرة.. لمحت ارتباكه فمنحته ابتسامة مقتضبة.. عجز أمامها عن تفادي سهام نظراتهاك التي تذيب الجليد.. وتنشر الارتياح.. الوجه المبتسم راح يتراجع وهي تقرأ في رواية تقريبا.. اختار طاولة قريبة منها.. ليرصدها في هدوء وسكينة.. ثلاثينية ذات وجه بيضاوي تحتله عينان واسعتان تتلألأ في سوادهما عشرات النجوم.. انها تشبه المرأة الحلم التي تغمره في هدأة الليل كنسمة ربيعية منعشة.. وحدها تنتشله من الغرق وتكتب معه سطور العمر في دفتر الفرح.. نادي علي النادل وطلب لها مشروبا تختاره بعد ان تفرغ من قهوتها.. لابد من الامساك بها.. باغته سؤالها: أتعرفني؟ فتلعثم الجواب وسكن حلقه.. بادرته شاكرة المشروب.. بعد أن عادت إليها ابتسامتها التي تشبه ابتسام اللوز والبرتقال الذي فلح في ترطيب اشتعاله.. قائلة: يمكنك مشاركتي طاولتي.. دارت به الدنيا حدث له ما يشبه الزلزال والاعصار.. كان هناك بخار مختزن من اثر اشتعاله لرؤيتها.. تكاثف حتي ملأ المكان.. قالت اسمها الذي لايهمه في كثير.. المهم انها تشبه المرأة الحلم.. الحديث يدور بينهما في جو صاف هادئ.. ضحكت كثيرا وهو يحدثها عن انتظاره الطويل للمرأة الحلم التي تشبهها واضافت قائلة: قد نتشابه في الشكل لكننا بالضرورة نختلف في اشياء كثيرة.. اهمها هل لديها القدرة علي الحب واستمراره؟ انها لاتحب القيود التي كسرتها عند أول تجربة زواج تنشد الحرية كالعصفور الذي لايهوي القيود حتي لو كان القفص مصنوعا من الذهب الخالص.. مهندسة تعمل في مكتب هندسي.. متعتها في الرسم علي لوحة رمادية.. نقاط وخطوط ومربعات تتشكل في هندسة عمارة جميلة.. تتقاضي عنها أجرا طيبا.. يكف احتياجاتها ويفيض.. تبتهج وهي تتأمل اشكالا من نسج خيالها في دوائر الدخان المتخلفة عن سجائرها.. لاتفكر في الغد.. لانه لم يأت بعد ولاتحب جرجرة الأمس الذي ذهب.. لاشيء سوي اللحظة التي تحياها. ترشف في تلذذ فنجانها الثالث.. الذي يشبه في سواده الكثير من حياتها.. انه امام امرأة غريبة الأطوار.. افقدته تماسكه واتزانه اختفي البريق في عينيها.. واخذ الحوار مسارا مختلفا.. اصبح ثلجيا.. وهي تحدثه عن المرأة الحلم في حياته والتي لن يلتقي بها ابدا.. لابد له ان ينفض الحلم ويعيش الواقع بكل قسوته.. وان يستمتع بحياته لان الاعمار قصيرة كالزهور ماتلبث ان تذبل. والكل سائر إلي الموت.. انصرفت دون وعد بلقاء وهو مازال مستسلما لسطوة حضورها.. وانصرافها المباغت.. تسلل يتتبع ضوءا شاحبا يسكنه قمر وحيد علي البعد يلوح شبح امرأة موغلة في شرنقة أو جاعه.. لم يلتق بها بعد مطر مباغت يغسل البيوت.. ويزيل غبار الشوارع المقفرة.. والعتمة بداخله.. الأرض لامعة.. السماء اصطبغت بلون وردي يبعث في نفسه بعض الطمأنينة.. بعد أن أربكت المرأة التي التقي بها التقويم في بوصلة ايامه. محمد محمود غدية/ المحلة الكبري [email protected]