في الغربة يصبح المرض جحيما, يشتد فتشف الروح ويصفو الذهن.. هذه المرة كانت نوبة البرد الآسيوية قاسية, والشفافية في أوجها حتي صارت الروح غيمة شتوية رقراقة, تحلق بي بين خيالات بعيدة. تدمع لها العين وتنز منها كل جراح القلب القديمة.. الدموع لا تنهمر لتغسل الروح وينتهي الأمر, إنما تنحبس ليطول الألم وتتشابك خيوط الذكريات أكثر, محاولة أن تكبل الروح المحلقة.. لكنها تنفلت.. في المساء أصبح عاجزا عن الحركة., فأضطر للإتصال بأحد الزملاء ليحضر لي بعض الأقراص.. أجاهد لأفتح الباب وما ان أرتمي علي السرير مرة أخري حتي أشير إلي جيب البنطلون ليأخذ نقود الدواء.. يأخذها ببساطة قاتلة قبل أن يسأل عما بي ويجلس.. ما تجيب يا أخي حاجة نشربها. هو الذي قالها, فلم أكن قادرا علي الكلام.. أشرت إلي الثلاجة فأخذ منها علبة العصير وناولني مشكورا زجاجة المياه والأقراص.. الروح تشف أكثر وأكثر, تصعد حتي تتجاوز عنان السماء.. ماذا لو أموت الآن؟.. نعم في هذه اللحظة بالذات.. سوف يقلبني مرتين يمينا ويسارا ثم يتصل بالشرطة بهدوئه المثير, أثق أنه لن يستخدم تليفونه المحمول وإنما ستكون أنامله قادرة علي أن تتحرك علي أزرار تليفوني برقة مفزعة وهو يحوقل ويترحم علي.. بعدها سيتصلون بخالي الذي أنعم علي بعقد العمل, سيأتي سريعا وينتشر الخبر بين الأقارب هنا, سيتعاون الجميع لوصول الجثمان سالما إلي مصر بأقصي سرعة.. في المطار سيكون أخي الأكبر دامعا.. سيكتمون الخبر عن أمي وزوجتي والأولاد حتي يصل الجثمان إلي البيت.. عندئذ يبدأ الكابوس الحقيقي.. أفقت علي صوت زميلي وهو يمسك الريموت قائلا: فين قنوات اللحمة الحمرا؟ أخذ ينتقل بين الكليبات العارية وهو يهز ركبته اليمني مع الصراخ المتصاعد.. هذه الميتة البائسة لا تليق بي.. أحد أصدقاء العمر فجرته قنبلة وحبيبتي الأولي ماتت مقتولة في إيطاليا بعد هربها من زوجها إلي هناك.. أخذت أفكر في أحلي طريقة للموت.. ستمهلني الأيام حتي آخر العام.. أستقل الطائرة حالما باللحظة التي سيرتمي فيها طفلاي وزوجتي بأحضاني المستعدة لالتقامهم.. فجأة تنفجر الطائرة.. لا تكن سوداويا.. سيرتمون بأحضاني بالفعل وسيفلت( عمر) من أمه كالمعتاد ومن رجال أمن المطار ليكون أول الواصلين إلي داخل صالة الوصول.. في السيارة العائدة بنا سأضع رأسي المكدود علي كتف زوجتي وتلفني بذراعيها غير عابئة بالسائق, سوف أسلم الروح عندئذ بهدوء.. نعم.. ذلك الشريان الضيق بالقلب الذي أهمله منذ سنوات والضغط المرتفع, يؤهلانني بجدارة لذلك.. ستظن هي أنني نائم ولن تكتشف الأمر إلا حين نصل إلي المنزل.. ياااه.. أوحشوني كثيرا.. أوحشوني موووت.. مرة أخري موت؟!.. أيها الأحمق لن تمنحك الدنيا البخيلة هذه الميتة الرومانتيكية أبدا.. بدأت دموعي تنهمر, فشددت الغطاء علي رأسي متخفيا عن عينه اللتين تحدقان في الشاشة الجهنمية بشراهة.. من سيتولي تسديد ديوني من بعدي؟... ديوني هناك لإخواتي, سيتنازلون عنها, لكن ديوني هنا لابد من ترتيب أمرها.. سأترك لخالي تفاصيلها لتصل الحقوق لأصحابها من الورثة.. ماذا لو أموت في المدرسة؟.. نعم.. أفضل وقت أثناء طابور الصباح والفناء ممتلئ.. لتكن اللحظة التي تسبق تحية العلم مباشرة.. السكون يسربل المكان والعيون تتطلع إلي سارية العلم التي سأقترب منها ويطاوعني شرياني اللعين لينفجر وأنا أحتضن السارية, ساقطا ليلفني العلم.. ليس علم بلدي, أعرف نحن أمة عربية واحدة كما تقول إذاعاتنا علي أية حال.. ستحملني سيارة الإسعاف سريعا ويكملون يومهم الدراسي بكل رتابته ولا جدواه.. أنا متعب هكذا حتي في الموت.. فلتدهسني إذن سيارة يابانية فارهة.. ليكن قائدها أحد تلاميذي في الصف مثلا, دون العشرين من عمره, يطير بها مخمورا كعادته.. ربما يلحظ بعد فوات الأوان أنني أستاذه فيحاول كبحها, لكنها لن تأبه لأمثالي من الوافدين الأجانب كما يقولون.. غلبني النوم وأفقت فلم أجد من زميلي سوي صوت التليفزيون المرتفع الذي لم يهتم بإغلاقه.. في الصباح بينما أرتدي ملابسي بصعوبة بالغة وأشنق رقبتي برباط العنق الذي يفرضونه علينا في المدرسة; أكون قد عرفت الميتة البشعة التي تدخرها الأيام لي.. ستتركني لأحيا هنا وحيدا مزيدا من السنوات.. المدهش أنني في هذه اللحظة بالذات, مع تحطيم الجسد وتصاعد اليأس إلي الحلق والروح;وجدتها روحي تشف وتشف ولا تزال قادرة علي التحليق بعيدا وجدتني أتلمس يد زوجتي لنطير عاليا, عاليا جدا.. كعادتنا صرنا غيمتين شتويتين مترعتين بالدمع, راحتا تمطران.. تمطران بغزارة حتي أوسعتا العالم كله مطرا. إيهاب رضوان المنصورة