انا كنت شيء وأصبحت شيء ثم شيء شوف ربنا قادر علي كل شيء هز الشجر شواشيه وقال لابد ما شيء يموت لاجل يحيا شيء وعجبي.. علي حياة مقوماتها الموت, طفولة بريئة تتشوق لرحيل جسد آخر عن عالمنا كشرط للابتسام.. عجبي علي شيء بيحيا يموت شيء.. علي ناس بتموت لأجل مايحيا ناس طفل صغير.. استسلم جسده للشمس الحارقة, واتكأ بظهره علي أحد شواهد القبر وكأنما المشهد يقول صراحة ان هذا الجسد استند الي الموت واعتمد عليه ليعيش. محمد هاني أنور.. الذي اهتدينا إليه أثناء رحلتنا في عشوائيات المقابر, ظل ساكنا بلا حراك.. فقط يبحث بيديه الصغيرتين في تراب الجبانة عن شيء يسليه حتي عثر علي وردة صغيرة خلفها احد الافواج التي جاءت تزور المقابر.. عيناه مثبتتان علي الزهرة ورأسه يهتز جيئة وذهاباي علي صوت النقشبندي وابتهالاته.. وما أن سمع أصوات خطواتنا الي داخل الجبانة حتي ابتسم الصغير ابتسامة بريئة وواري زهرته تحت التراب.. ليركض نحونا قائلا الكرمة والنبي.. مايحرمكمش من عزيز ولم يوقف حديثه سوي ظهور عم رمضان خلفنا ليقول لنا.. ده محمد11 سنة قضاها بين الأموات من يوم ماتولد وهو عايش علي البرتقان والقرص وارباع الجنيهات اللي بياخدها من أهالي الميتين. بلا شهادة ميلاد مثله كمثل كل أبناء مجتمع المقابر, يعني علي رأي الفيلم لو راح سأل عن نفسه في السجلات هايلاقي نفسه شبح مالهوش وجود في مصر لأن مافيش ورقة تثبت أنه اتولد أو موجود أو حتي لمايموت مافيش حاجة تثبت كده.. شهادة ميلاده هي ملامحه.. هي وجوده.. وهايفضل هو واصحابه في الجبانة موجودين حتي لو مفيش ورقة بتقول كده. عشر دقائق هي مدة حديثنا مع محمد كانت كافية بأن ندرك معني ماقاله الشاعر سيد حجاب ومنين بييجي الرضا.. من الإيمان بالقضا فكل مايقصه علينا لايصدقه عقل ولايتحمله انسان يريد الحد الادني من مقومات الحياة ولكنه يختم كل جملة بإصرار علي أن كل ده عادي ولايعتبر معاناة بل ان حياة الاطفال كلهم هنا كده ومش مشكلة طالما بيقدر ساعات يلعب مع ولاد عم رمضان. سرده بسيط كبساطته لكن الحكاية مش بسيطة.. محمد أخ لخمسة هو اصغرهم, تطلق والداه بسبب الظروف الاقتصادية.. ابويا متجوز اتنين ولما ساب والدتي أنا فضلت وياه وبزور والدتي في بولاق الدكرور.. إحنا ساكنين في عشة خوص فوق بعض كلنا وهي أصغر من اوضة عم رمضان هكذا كان بسيطا ومبتسما في حديثه وحول يومياته في الجبانات قال بنفس الابتسامة أنا مبخافش من الأموات لأني اتعودت عليهم وكمان انا مش بشوفهم لأنهم بيبقوا متكفنين.. وأحلي أيام هنا بتكون أيام العيد لأني بقرأ الفاتحة مع زوار المقابر وباخد منهم برتقان وقرص كتير والشغل هنا بيبتدي من الساعة8 الصبح لأن اغلب الناس بتحب تدفن بدري في النهار لكن برضه في ناس بتيجي المغرب. وانقاذا لنا من حملة التعجب التي انتابتنا قال عم رمضان يا اساتذة هو بيتكلم صح, وكل الاطفال هنا شبهه كده ورافضين العالم اللي بره لأنه هو كمان رافضهم.. مثلا لما جربوا اولادنا يروحوا المدارس كانوا بيرجعوا كل يوم وعيونهم حمرا دم من العياط لأن اولياء الامور مانعين التلامذة يختلطوا بيهم لانهم ساكنين في المقابر وبيقولوا عليهم متشردين وبلطجية وكمان الاطفال بيقولوا أنهم عفاريت ودعنا محمد قبل أن نذهب فهرول الينا بعد أن نبش التراب ليستعيد زهرته التي خبأها وأهداها لمحررة الاهرام المسائي مبتسما وطلب أن نقوم بالتقاط صورة جماعية معه أمام بوابات الحوش.. فكان له ما أراد.. انطلقنا عائدين إلي حيث المدينة والزحام ولسان حالنا يقول هذا طفل مصري كان من المحتمل أن يصبح زويل أو مشرفة جديدا لكن وقفت عشوائيات الجبانة في طريقه.