في المقالة السابقة طرحنا ضرورة التوقف عن التهديد بإنهيار الإقتصاد المصري نتيجة الثورة, نظرا لطبيعة موازنة الدولة التي تعتمد علي مصادر ريعية مثل البترول والغاز ودخل القناة, وتحويلات المصريين بالخارج, وأن ما يتعرض للأزمة هي عوائد السياحة, الضرائب والجمارك, وطرحشنا عوامل ضعف كفاءة الاقتصاد متمثلة في غياب الرؤية الإقتصادية وتهميش أجهزة التخطيط الإقتصادي والإجتماعي وشلل الأجهزة التشريعية والرقابية مع تفشي الفساد بكل اشكاله من اقتصادي واداري وسياسي, مما انتج ضعف تنافسية الاقتصاد المصري الذي لم يستكمل عملية التحول من اقتصاد موجه, مع إستبعاد وتهميش المشروعات الصغيرة والمتوسطة ودورها الاقتصادي, والتركيز علي طبقة كبار رجال الأعمال وأخيرا تأثيرات تلاشي الوزن السياسي لمصر. واليوم نركز اكثر علي فرص التطور والنمو الاقتصادي. المحور الأول الذي يجب البدء به هو تطوير بيئة الاعمال, وهي كل ما يحيط بالمستثمر من طبيعة ومجتمعات بشرية ونظم اجتماعية وعلاقات شخصية, تشكلها العوامل والمتغيرات التي تقع خارج حدود الاستثمار او الشركة وتؤثر في نشاطها بشكل مباشر او غير مباشر. البيئة ليست فقط قوانين ولوائح, البيئة في الأساس بشر وقيم وأطر تحركها, ضابط الجوازات الذي يستقبل المستثمر, سائق التاكسي الذي يجلبه من المطار, موظف الاستقبال في الفندق, موظف مكتب السجل التجاري والعقاري, ومئات غيرهم هم أبطال تحسين بيئة الاستثمار. ومنذ عقود ونسمع تصريحات ان الحكومة حريصة علي المناخ المواتي لجذب المزيد من الاستثمارات المحلية والعربية والأجنبية لإقامة مشاريع تنموية تسهم في الارتقاء بمعدلات أداء الاقتصاد المصري, لكن هذا الحرص لم يتم وضعه في خطة عمل علي ارض الواقع. لم يكن ممكنا تجاهل حقيقة أن الاستقرار السياسي كان ومازال العمود الفقري لبيئة الأعمال, والمتخصصون يعرفون ان الانظمة الديكتاتورية, لا تستطيع ان تجذب الاستثمارات النظيفة, بل تركز علي جذب المستثمرين الاقدر علي توفير التربيطات وتقاسم المصالح مع رجال السلطة, الديمقراطية التي سوف تتيحها الثورة سوف تساعد مصر علي استعادة وتنقية سمعتها الدولية, فعلي الرغم من امكاناتها الهائلة, لم تنجح مصر في ان تصبح قبلة الاستثمار الاجنبي المباشر فكانت احصائيات الحكومة تكذب وتتلاعب بالأرقام. يجب ان نفتح اعيننا وننظر حولنا, ونري كيف حولت الاجراءات الميسرة للاعمال دولة مثل المملكة المتحدة الي وجهة يقصدها المستثمرون من كل انحاء العالم. واصبحت مدخل اوربا اكبر اقتصاد موحد في العالم, فهي تقدم ليس فقط بيئة إجرائية منافسة وواحدا من اخفض معدلات الضرائب الشخصية في اوربا, بل ايضا بيئة تهتم بالقوي العاملة والتي تجعل من السهل علي الشركات من جميع القطاعات تعيين موظفين عاليي الكفاءة. وفي يناير الماضي اعلن عن تقدم مصر5 مراكز في المؤشر العام لسهولة اداء الاعمال الذي تعده المؤسسة العربية لضمان الاستثمار خلال عام2010 مقارنة بعام2009, وذلك علي الرغم من ان مركزها لايزال متأخرا بشكل كبير علي المستوي العالمي, حيث جاءت في المركز ال94 بين دول العالم. وأشارت البيانات الي ان اداء مصر في المؤشرات العشرة الفرعية لبيئة اداء الأعمال جاء شديد التباين, حيث تبوأت مركزين عالميين متقدمين نسبيا في مؤشرين, أولهما: مؤشر بدء المشروع, حيث جاءت في المركز ال18 علي مستوي العالم, وثانيهما في مضمار التجارة الخارجية, حيث جاءت في المركز ال21 بالنسبة لمؤشر التجارة عبر الحدود, وذلك بعدما خفضت التكلفة اللازمة لتأسيس الشركات, وتطبيق نظام إلكتروني لتقديم مستندات التصدير والاستيراد. بينما جاءت مصر في منطقة وسطي بالنسبة لمؤشري الحصول علي الائتمان المرتبة ال72 عالميا, وفي حماية المستثمرين المرتبة ال74 عالميا مقابل احتلالها مراكز متأخرة جدا في بقية المؤشرات. إن البيانات المذكورة اوضحت ان مصر تحتل مراكز تتراوح بين ال120 وال154 علي المستوي العالمي في مؤشرات سهولة توظيف العاملين وإغلاق وتصفية المشروع ودفع الضرائب وتنفيذ بيئة أداء الأعمال في مصر تلزمه إصلاحات عاجلة في مجالات عدة, ولن يكون هناك تحويل اقتصادي دون اجراء هذه الاصلاحات بصدق وكفاءة عالية. ابرز هذه الاصلاحات يكمن في استبدال النظم البيروقراطية والذي سيتيح مكافحة الفساد الإداري والذي ينتج عنها, فمثلا مدة تسجيل الممتلكات في مصر تصل إلي72 يوما, وامام المستثمر الخيار اما عدم التسجيل واما خفضها وإختصارها عبر الرشوة, وأصبحت الرشوة اجبارية حتي مع الجادين, نفس الشيء يتكرر مع استخراج تراخيص البناء, وإصدار رخصة أو الحصول علي أراض صناعية. لقد طورت دول العالم قوانينها ونظم الأستثمار بها في العقود الأخيرة, ففي أحدي الدول الأوروبية يستطيع المستثمر سواء أكان وطنيا أو أجنبيا مزاولة عمله وبدء مشروعه الاستثماري بموجب الحصول علي مستند واحد من هيئة الضرائب خلال يوم واحد. لقد تراجعت مصر حتي علي صعيد ترتيبها علي المستوي العربي, واحتلت المرتبة الثامنة في المؤشر العام لبيئة أداء الأعمال والمرتبة الثانية في مؤشري بدء المشروع والحصول علي الائتمان والثالثة في التجارة عبر الحدود والسادسة في حماية المستثمر ومن المركز ال13 إلي المركز ال18 عربيا في بقية المؤشرات. وليس فقط علي الحكومة التي ستفرزها الانتخابات أن تحدد أولويات عملها ولكن يجب علي المجالس التشريعية المنتخبة ديمقراطيا أن تمثل ضربة للفساد, وأتذكر قيام رئيس الوزراء اللبناني السابق فور تسلمه السلطة بالإعلان عن إعداد وثيقة استراتيجية وطنية لتفعيل النمو وتحسين بيئة الأعمال في لبنان, وضعت أهدافا أبرزها: زيادة الأمن والأمان, والحد من الفساد, وتحسين أداء الخدمات الحكومية وضمان التغذية الكهربائية الدائمة, وضمان وصول شامل وميسر لخدمات الإنترنت, وبيئة أفضل, وإدارة أفضل للمياه, والحد من مشكلات السير, وتحسين التواصل. إن مصر تحتاج التحقق من تطبيق كل بند من هذه البنود وبشكل عاجل حتي نضمن الحد الأدني من تحسين بيئة الأعمال.