كيف يمكن جذب المزيد من الاستثمارات وهناك من يطالب بالعودة للتأميم والمصادرة؟.. إن كنا نقصد فهي مصيبة.. وإن كنا لا نعي النتائج والآثار السلبية لتلك الأصوات المطالبة بالعودة إلي التأميم والمصادرة.. فالمصيبة أعظم, وعلي بقايا الكيانات المنقرضة من الاشتراكيين والشيوعيين الامتناع عن قراءة السطور القادمة, لأن عقارب الساعة لن تعود إلي الوراء, كما أن الأعراض التي تطفو علي السطح لا تعني أبدا التخلي عن دور القطاع الخاص والمستثمرين لاستكمال برنامج الاصلاح الاقتصادي. بداية لابد من الاعتراف بوجود مشكلات حقيقية أدت إلي تلك المشاهد واللقطات الصاخبة التي شهدتها الأرصفة المقابلة للبرلمان ومجلس الوزراء في الأيام الأخيرة, وما حدث ويحدث بخصوص الأوضاع وحقوق العمال في شركات النوبارية وطنطا للكتان وامنيستو وعمر افندي وغيرها من مشروعات تتعرض للتعثر نتيجة أسباب واقعية أو بسبب إخلال صاحب المشروع بتعهداته والتزاماته. وهذا يدعونا إلي مراجعة الإجراءات والتفاصيل, والدولة تملك دائما وسائل الحوار والضغط إن لزم الأمر لإجبار المستثمر علي الالتزام بالتعاقدات التي تمت وتستطيع الجهات والهيئات المعنية أن تقوم بدورها بالمهارة التي لا تسيئ إلي صورة مصر باعتبارها الأكثر جذبا للاستثمار كما تقول بذلك تقارير المؤسسات المختصة دوليا وإقليميا.. من الجائز أيضا أن يعاد النظر في قانوني العمل والشركات لاستيعاب حصيلة التجارب السابقة حتي تمنع تكرارها وللحد من تفاقم الأمور إلي النحو الذي يتضرر منه أحد أطراف العملية الإنتاجية ابتداء من المستثمر الذي يجب مراعاة مصالحه لأنه في النهاية يبحث عن الكسب المشروع من وراء استثمار أمواله, وأيضا وعلي نفس القدر من الأهمية الحفاظ علي حقوق العاملين حتي يتحقق لهم الاستقرار والانتعاش الذي ينعكس إيجابيا علي أحوالهم المعيشية وبما يخدم الاقتصاد الوطني, ولكن علينا أن نعترف أيضا بأن ثقافة الاستثمار عندنا لاتزال بعيدة عن المناخ الصحي اللازم لنموها وتطورها رغم أن الدولة تعمل رسميا وفق توجهات واضحة لا لبس فيها لتشجيع المستثمرين وإزالة العقبات أمامهم والتيسير من الإجراءات البيروقراطية وتفتح أمامهم الأبواب علي مصراعيها إدراكا بأن ذلك هو الاتجاه الاجباري الذي تسير فيه كل الدول بلا استثناء ابتداء من الولاياتالمتحدة وأوروبا وانتهاء بالصين بصرف النظر عن الاختلاف الجذري في النهج السياسي والفكر الاقتصادي. ولعلنا نضيف أن الدول الغنية التي قد يتبادر إلي الذهن أنها لا تحتاج لمثل هذه الأموال القادمة إليها من الخارج نجدها هي الأخري تمنح الحوافز والاعفاءات جذبا لرؤوس الأموال, كما حدث ويحدث في الإمارات وبقية دول الخليج التي أعادت وتعيد النظر في القيود المفروضة علي تحركات رجال الأعمال وتعطيهم الأفضلية في التنقل ومباشرة أعمالهم بحرية كاملة. هذا هو الأصل الذي لا نقاش حوله, وهكذا تجري الأمور في مصر التي شهدت بالفعل تدفقات استثمارية هائلة تغيرت معها معالم الاقتصاد وأصبح القطاع الخاص بكل مكوناته شريكا أساسيا واستراتيجيا لا غني عنه. ولكنه الجدل الذي أصبح سمة مميزة في حياتنا, ولم يعد يقتصر علي تفجير القضايا السياسية خاصة ونحن نقترب من مراحل مهمة علي طريق الممارسة الديمقراطية, وإنما يصل هذا الجدل إلي أساسيات المشروع الاقتصادي وخطواته الاصلاحية التي تمكنت معها مصر من اجتياز أزمات وعواصف عاتية لاتزال تهدد أقوي اقتصاديات العالم, وإذا كنا لا ننكر وجود أضرار إلا أنها لا تقارن بما نسمع ونري من انهيار المؤسسات المالية الأمريكية وزيادة حالات الإفلاس والدمج بين الشركات العالمية العملاقة وغيرها من تداعيات تتواصل حتي يومنا هذا. وقد آن الأوان لإدراك حقيقة بالغة الأهمية تتعلق بكلمة السر والمفتاح السحري لما يتحقق هنا من انجاز اقتصادي يشيد به العالم ويفتح آفاقا واعدة للمستقبل نستطيع معها منافسة الكبار والحصول علي النصيب الذي تستحقه مصر من ثمار لا تقل عن مثيلاتها من البلدان المتقدمة, وكل ذلك يأتي منه الثقة التي لا غني عنها لتشغيل الدائرة الاقتصادية. في كثير من الأحيان يبدو البعض بعيدا عن معطيات واضحة لا تحتاج إلي إثبات وبراهين, وهذه المعطيات ليست وليدة أمس ولكنها تطلبت جهدا دؤوبا ومتواصلا لبلوغ مراحل متقدمة تتوافر لها الرؤية المستقبلية والسبل الكفيلة بتحقيقها دون خشية الانزلاق إلي مخاطر غير محسوبة أو الاندفاع وراء أحلام اليقظة التي ارتطمت معها تجارب أخري بأرض الواقع. نريد أن نقول وبشكل واضح أن تجربة الاصلاح الاقتصادي في مصر قد بلغت مرحلة النضج بعد مسيرة طويلة انطلقت من نقطة الصفر حين كانت الدولة وحدها هي التي تتحمل كل الاعباء ابتداء من إعداد وتمويل خطط التنمية وانتهاء ببيع الساندوتشات في الشوارع. تغيرت الأحوال وهدأت اهتزازات البداية وتحددت علامات الخصوصية لبرنامج الاصلاح المصري وفقا لرؤية وطنية التزمت بالبعد الاجتماعي حفاظا علي محدودي الدخل ولم تفلح الضغوط الخارجية في تخلي الدولة عن مسئولياتها. وقد نحتاج إلي تنشيط ذاكرة البعض بالتنويه بأن الكثير من الدول التي تأخذ بالاقتصاد الحر تترك الأسعار لآلية العرض والطلب ولا تتحمل دعما مباشر أو غير مباشر يسجل ارتفاعات قياسية في ضوء الأسعار العالمية, وهذه الدول لا تتدخل لانقاذ المشروعات الخاسرة التي عليها أن تغلق أبوابها أو تعيد ترشيد إنفاقها مما يعني الاستغناء عن أعداد كبيرة من العمال وزيادة نسبة البطالة. وحتي برنامج الخصخصة الذي يحلو للبعض مهاجمته فإنه يخضع هو الآخر لمعايير وضوابط تدفع المؤسسات الدولية التي تتابع مثل هذه الأمور إلي التساؤل والدهشة. ولكن هل يعني ذلك كله عدم وجود أخطاء تستوجب المراجعة خاصة في ضوء المشاهد والأحداث الساخنة التي وقعت في عدة شركات خلال الأيام الأخيرة؟ وفي الإجابة نستعين ببعض كلمات الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء التي قالها وهو يستعرض الأزمة التي حدثت قبل أيام بسبب نقص السولار وارتفاع سعره والازدحام عليه. قال إن الأسباب لوجستية ونحن نعمل علي حلها وهي إشارة إلي أمور تتعلق بعمليات النقل والتوزيع والتخزين, ولا علاقة لها بتوفر الاحتياجات الموجودة فعلا. والأمر نفسه ينطبق علي الملف الاستثماري, لأن المشكلة تكمن في العوامل اللوجستية ابتداء من وجود جهاز تنفيذي قوي وقادر علي المتابعة لبنود الاتفاقيات والعقود المنظمة لأداء المستثمرين والعمل فورا علي تصحيح أخطائها قبل أن تتحول إلي قنبلة تنفجر في وجه الجميع. وبصراحة أكثر نقول إن التغيرات الهائلة في سوق العمل المصرية تتطلب لغة تعامل جديدة تختلف جذريا عما كان سائدا أيام الاشتراكية, ومن المثير للعجب أننا نسمع بعض القيادات العمالية تتحدث بلسان الستينيات من القرن الماضي, كما أن بعض وسائل الإعلام تحمل الدولة والمستثمر المسئولية دون البحث الحقيقي عن أسباب المشكلة. إننا هنا لا ندافع عن المستثمرين ورجال الأعمال ومن الداخل أو الخارج وليس هذا مقصدنا علي الإطلاق ولكن القضية أكثر عمقا وخطورة من أن نسارع بالإدانة للمستثمر الذي قد يتحمل الخسارة ولكنه يرسل إشارات سلبية قد تجعل غيره من أصحاب رءوس الأموال يفكرون ألف مرة قبل المغامرة بالاستثمار وسط الصيحات الغاضبة التي تهدد وتتوعد بالتأميم والمصادرة. ولسنا في حاجة إلي شرح أسباب بعيدة تماما عن مصالح العمال قد تدفع بالبعض إلي المناورة والمزايدة لإثبات الوجود واستعراض العضلات علي حساب صورة مصر في الخارج, وذلك في وقت يزداد التنافس علي جذب هؤلاء المستثمرين. ولسنا في حاجة أيضا إلي التنويه بوجود خلل واضح وفاضح في العلاقة بين بعض وسائل الإعلام من فضائيات وصحف قد تجد في تلك المشكلات فرصة لتصفية الحسابات أو الابتزاز وتهديد الآخرين إذا لم يسارعوا بالامتثال والقبول. وعلي الجميع دون استثناء إعادة النظر في المشهد القائم الذي يؤكد أن الغالبية الساحقة من رجال الأعمال والمستثمرين يؤدون دورهم لخدمة مصالحهم والاقتصاد الوطني علي حد سواء, وهناك المئات من المشروعات الناجحة في المدن الصناعية والجديدة وفي قلب الصحراء وكلها تعمل بسواعد مصرية تبني المستقبل. ولا يمكن أن تتوقف المسيرة بسبب أخطاء فردية أو نماذج يجري تضخيمها عن سبق إصرار وترصد.