فى أبريل 1971 انطلق أول مهرجان للمربد الشعرى فى العراق. وظل يقام فى بغداد حتى الاحتلال الأمريكى 2003 فانتقل إلى البصرة بعد 18 دورة «بغدادية»، آخرها عام 2002. واستأنف المربد دوراته فى البصرة عام 2004 وقد ألغى تسلسله القديم، واعتمد تسلسلا يبدأ بالعدد (1)، وأقيمت 13 دورة حتى عام 2017. ولكن دورة العام التالى (2018) حملت رقم 32، حيث اعتمد المهرجان تسلسله القديم بأثر تراكمي، لتحمل دورته الجديدة (2019) رقم 33. لى حظ حضور مهرجان المربد فى أحواله الثلاثة: عام 2000 فى بغداد تحت حصار دولى جائر واستبداد محلى أكثر جورا. وعام 2017 فى دورته الثالثة عشرة قبل التطبيع مع ما قبل عام 2003. وهذا العام حيث اختتمت دورته الثالثة والثلاثون مؤخرًا. وبين زيارتى الأولى للعراق (2000) وزيارتى الحالية قامت القيامة، وبعثت البلاد من الرماد، ولو مستباحة تغرى الطامعين بنسف الحدود والبشر. الحرب الظالمة أنهت حصارًا جائرًا، وأخضعت العراق لاحتلال أمريكى يشرف على حروب طائفية لا تنتهي، وينعش الرغبة فى الثأر والانتقام، وتصفية حسابات تاريخية عمرها 1400 عام. بين الزيارتين 19 سنة استهلكت بضعة رؤساء، ومليارات من الدولارات المهربة بمسئوليها الفارين، وملايين اللاجئين، وآلاف القتلى والمهجّرين، وأغارت على أديان وأعراق. والموت لا يشبع، والأرض لا تزهد فى الارتواء بالدم. بعد 19 عاما من رحلتى الأولي، تجاوزت الخمسين. بلغت سن الحكمة التى تروّضني، وتجنبنى شيئًا من الاندفاع والسباب، أما العراق فعاد إلى الطفولة، وأعاد الشعر إلى نبع يتغذى على روح الثأر، ويحث على الانتقام من أحفاد غير موجودين؛ لانقطاع نسل آبائهم قبل ألف وثلاثمائة عام، ولكن أجواء البصرة توهمنا بكثرتهم، وأنهم يتربصون بنسل الحسين وورثته. أمرّ فى شط العرب، من المرات القليلة التى أستعيد فيها دلالة وطعم كلمة «يمخر»، وأشاهد آيات فى «سنن الذين من قبلكم». عام 2017 تناولنا الغداء فى يخت صدام حسين، وتجولنا فى قاعاته وغرفه وسطحه، وهو «يمخر عباب الماء»، البرزخ بين عالمين، السهول والحقول والمراعى والفطرة فى الجهة الشرقية، وفى الضفة الغربية «ما قدموا وآثارهم»، قصر صدام، وقصور أعدها لحسنى مبارك وعلى عبد الله صالح والملك حسين، بمناسبة مجلس التعاون العربي. قصور تفترسها الريح، فليس فى البصرة إلا الانتظار والرهان على الأمل، والمدينة بين هبة وصمت، وكان المطار أكثر هدوءًا، تتناثر بضع طائرات، وصمت أول الليل لا يمزقه محرك طائرة أو حركة حافلة. لا صورة لمسئول، ذهب زمن القائد الضرورة، فمن هو أجدر بالتكريم قد اصطفاه التاريخ، إنه ابن البصرة ورمزها البهى بدر شاكر السياب. هنا تطل صورة الشاعر النحيل جدارية منتصبة فى صالة الاستقبال، قبل الوصول إلى «قاعة السياب». من المطار إلى فندق البصرة الدولى يحتشد جانبا الطريق بعمائم أغلبها سوداء، وعبارت وعيد وتحريض، لا أستطيع قراءتها كاملة، وإن أمكن قراءة بداية جملة هنا واستكمال بقيتها بعد مسافة، إعلانات ثابتة، ولافتات قماشية اهترأت من طول مقاومتها لعصف الريح، «لبيك يا حسين»، «سيد الوجع يا حسين»، «نور عينى يا حسين»، «المقاومة الإسلامية حزب الله»، صور لشهداء مصحوبة بأسمائهم «لكى لا ننسي، قتلهم بعثي»، ولافتات أخرى تكتفى بكلمتى «الفاتحة للشهدء»، فأترحم على البصرة، الحاضرة التى فى خيالي. قرأت عن حلم الشيخ زايد، وهو يتحمس لإغراء الإمارات السبع بالانضمام فى دولة اتحادية، بتشييد مدن على غرار البصرة، المدينة التى أنشأها عتبة بن غزوان بأمر من عمر بن الخطاب، وصارت منصة الانطلاق العربى نحو الشرق، جنة تجرى فيها الأنهار وينمو النخيل، وتؤول إليها الطيور، وتصبو إليها القلوب وعلماء اللغة والكلام والمتصوفة والمارقون والشعراء والغاوون، قبل أن تجف أنهارها ويشيخ زمانها، ويتسلل منها الأعداء والغزاة، وينطبق عليها المثل «بعد خراب بصرة»، رغم كفاية نفطها لإنعاش العراق، ولكن لا أمارة على النعمة، وإنما ملامح تشى بالحزن، وربما تستعذبه. لم يبالغ محمود درويش بقوله «فكن عراقيا لتصبح شاعرا يا صاحبي»، ففى العراق فقط، يتأكد لك أن الشعر فى أرضه، وأن الشعر سهل سلّمه، وأن الأرض لا تنبت إلا القصائد. فى العراق فقط تشعر أنك فى زمن الشعر، فقاعة «الفراهيدي» تضيق بحشد محب للجمال يحتاج إلى قاعة أخري. الفنادق الفخمة والمتاحف طاردة للجمهور فى كثير من الدول العربية، فى مصر تحديدا تجنبا للتعميم الذى يؤخذ بحساسية لدى أصدقائنا العرب، بنايات باذخة، نظيفة وبراقة وسط فضاءات القبح والفقر، فى تناقض السياق دعوة الجمهور إلى النفور. أما أمسيات الشعر فى العالم العربي، أخص مصر أيضا، فيحضرها الشعراء المشاركون وأصدقاؤهم، القصائد جمهورها الشعراء ومقاعد خالية، إلا ف العراق الذى يهبك قصيدة كلما أزحت حجرا، وإن شابت روح الشعر فى العراق الجديد أطياف ستأخذ حصتها من الانفعال وتمضي. ولكن للشعر فى العراق جمهورا لا يكتب الشعر وإنما يعشقه ويهاجر إليه، حتى فى «الأصبوحات» الشعرية التى تبدأ فى العاشرة، فالعراق وحده يتنفس الشعر من دون التزام بتوقيت الأمسيات. ولا تنخدع بما تناله القصائد المنبرية من استحسان، وطلب إعادة من الجمهور، ففى العراق أيضا أصوات مهمة تجدد الشعر، مواكبة للمنجز الشعر العربي، بعيدا عن ارتهان الشعر للماضي، وإحاطته بالأسوار. يقام المهرجان تحت شعار «المربد واحة الشعر»، ويشارك فيه نخبة من الشعراء العراقيين والعرب والأجانب، وتدعمه وزارة الثقافة والسياحة والآثار والحكومة المحلية فى البصرة والشركات النفطية فى المحافظة. واختارت اللجنة التحضيرية لاتحاد أدباء البصرة اسم الشاعر الراحل حسين عبداللطيف عنوانا لهذه الدورة، تقديرا لإسهاماته الشعرية فى خمسة دواوين ودوره فى إثراء الحركة الأدبية فى البصرة. وأصدر المهرجان ثلاثة كتب هي: «الوحيد.. الشاعر حسين عبد اللطيف 1945 2014 مؤرخا وناقدا للأدب البصرى الحديث» ويضم دراسات ومقالات للشاعر الراحل جمعها وقدمها الدكتور حامد ناصر الظالمي، و«بصريون يصنعون الحكايات»، وهو مختارات من القصص القصيرة جدا. و«موجة على باب البصرة»، ويشمل قصائد لمجموعة من شعراء البصرة من أجيال مختلفة ومنهم كاظم الحجاج وعبد الكريم كاصد وعبد الأمير العبادى وحبيب السامر وجبرائيل السامر وابتهال المسعودى وموفق السواد وكريم جخيور وفى السياب، أما المقدمة فكتبها رئيس كتاب الأدباء والكتاب فى البصرة الدكتور سلمان كاصد بعنوان «الشعر أيقونة اللغة»، ويبدو أنه فى زحام الإعداد للمهرجان لم يتح له وقت كاف لتناول المشترك الفنى والجمالى فى المختارات، فاختار أن يكتب مقدمة قصيرة عن ماهية الشعر، وقدرته على اختزال المعنى فى كلمات تنبض بالصدمة والمفارقة، وتمد اللغة بطاقة جديدة لا سبيل إليها إلا عبر روح الشعر. أكثر من 60 شاعرًا يمثلون العراق كله، ومعهم شعراء عرب وآخرون من إيران وأذربيجان وتركيا وغيرها، وتلقى القصائد فى قاعة الفراهيدى وبيت السياب، إذ أعدت الهيئة التحضيرية لاتحاد أدباء البصرة برنامجا طموحا يشمل القراءات الشعرية، والمحاور النقدية ومنها «القصيدة.. مشروعا حداثويا.. حسين عبداللطيف»، و«علاقة المثقف بالسلطة والفعل الثقافي»، «الهوية الوطنية والوعى الاجتماعي/ الحداثة والتقليد» فى منجز الكاتب الكويتى / العراقى إسماعيل فهد إسماعيل.