تبدو الجدران ساكنة جافة, موحشة إلي حد الخوف, أبحث في جنباتها عنها فلا أجدها, كانت هنا منذ زمن بعيد, تضاحكنا كثيرا وجمعتنا شقاوات الشباب وطموحاته, كان أولادنا يملأون البيت ضجيجا ولعبا, توارت كل الصور المزدحمة إلا منها, تجلس قبالتي تواسي شيخوختي, أشكو لها آلامي ووهن العمر المنقضي وما فعلته الأيام بعظامي المتهالكة كانت هي أيضا تتألم ولكنها لا تشكو, اعتادت أن تسمعني وتخفف عني, ولكنها غابت فجأة, لم تخبرني قبل أن ترحل, كنت أقول لها لا تخافي من الوحدة عندما يحين أجلي, أولادنا لن يتركوك, وسأنتظرك هناك حيث رضا الله ورحمته, ننعم في الجنة, فكانت تنظر إلي وتبتسم, لم أفهم أنها ستغادرني وترحل, ولم تشك ألما غير تعب مفاجئ بالكلي, أصرت أن تدخل به المستشفي لإجراء جراحة وكأنها كانت علي موعد مع القدر ذهبت إلي بارئها راضية مرضية, وتلقيت الصدمة الأكبر في حياتي لعل أولادها انفطرت قلوبهم عليها حزنا ولوعة ولكن حزني كان دفينا إلي حد الرغبة في الموت لألحق بها سريعا, لا آكل ولا أشرب ولا أبتغي شيئا من الحياة غير أن أغادر إليها, فالحياة ماتت معها ولم يبق لي فيها غير أهازيج ذكريات بعيدة وقريبة يدمي قلبي لها فراقا ولوعة, ملكت قلبي وحياتي في محياها ومماتها أبيت ليلي أناجيها لا أدري إن كانت تسمعني, تتناغم في مسامعي بكائيات حزينة حول داري التي خربت برحيلها, ووحدتي التي تطبق علي روحي لا تقضي عليها ولا ترحمني من العذاب, صحيح أن بناتي يتناوبن علي خدمتي مقتطعات من وقت بيوتهن وأولادهن أياما يقضينها معي, كما أن أولادي الرجال رغم مشغوليات الحياة المتباعدة يأتونني كل فترة يطمئنون علي, وكلما رأوني علي قيد الحياة انفرجت أساريرهم, وانزاح الهم من علي قلوبهم فترتاح ضمائرهم للانصراف علي وعد بمعاودة الزيارة في القريب ولا يأتي هذا القريب ولا البعيد عنه إلا كلما ألححت عليهم بزيارتي..! أنا لا أريد منهم شيئا وأعذرهم فكل منهم منشغل بحياته وأولاده, وأعرف أن المعايش وتدبير مقومات الحياة شيء صعب هذه الأيام, لا يجدون وقتا معه لأبيهم ولكني أستوحش الحياة بدونهم ولعلي أستمد منهم القوة علي تحمل فراق رفيقة عمري والإنسانة الوحيدة التي أحببتها في حياتي وكانت تؤنس وحدتي وتحتوي مرضي وآلامي. هم يعتقدون أن مجرد توفير طعامي وعلاجاتي وتوضيب البيت هو كل ما أحتاجه, ولكنهم لا يدركون أن الابن لأبيه سند يتكئ عليه في وهن شيخوخته ويري في بره ووفائه رحمة ربه ورأفته.. لقد كنت شابا مثلهم في يوم من الأيام تجتمع علي الصحة والفطنة اللتين جعلتاني تحت قدمي أمي في كبرها بعد وفاة والدي أخدمها وأرعاها لا أكل منها ولا أجعلها تستشعر الوحدة أبدا حتي رحلت عن الدنيا وهي راضية عني ولكني الآن أحس أن الزمن قد تغير وتغيرت كل المعاني الجميلة التي كانت تزين حياتنا.. هل جفت القلوب من المشاعر والأحاسيس حتي انطفأت شعلة الحميمية في أواصر الدم وأصبح العقوق يحل محل البر والوفاء؟ يا له من زمن قاس لا قدرة علي احتمال الجفاء فيه! ولكني باق فيه أنتظر ساعتي كما أنتظر مقدم أولادي لزيارتي, صاحبت وحدتي وأنين الفراق وعذاباته بالصبر حتي لقاء الأحبة وروضت الغضب في نفسي صبرا علي أولادي, فأنا لا أريد أن أرحل عنهم ولست راض عنهم فهم فلذة كبدي وحصيلة عمري كله لا أريد لهم غير الخير في الدنيا والآخرة..! بالأمس كنت أتحدث إلي أمهم أشكوهم إليها كعادتي في التحدث إليها افتراضا كل ليلة وكأنها معي لا تفارقني, وكلما شكوت واحدا من أولادها تبتسم لي ابتسامتها الساحرة الطيبة فتسكن الغضب في نفسي وتقول لي ألا يكفيك وجودي معك كل ليلة؟ وأجدني وقد هدأت لها واستأنست حديثها فتتبدد ظلمة الخوف والوحدة في نفسي وكأنها لم ترحل عني يوما. أعرف أنها ماتت وأن حواراتي معها ليست إلا خيالات لا يدركها غيري ولكني علي يقين من أن روحها تصاحبني حتي تأتي ساعتي وأرحل إليها في معية الخالق عز وجل حيث لا حاجة لأحد غيره ولا وجود لقلوب تحجرت الأحاسيس فيها تظللنا رحمته فهو أقرب إلينا من حبل الوريد. م. ك. القاهرة لو يدرك الإنسان أن سببا جعله الله في الدنيا من أجل وجوده عليه أن يترفق به في كبره يكون سببا في الآخرة أيضا لنجاته يوم المشهد الأعظم لبات ليل نهار تحت قدمي أبيه وأمه, ويكفي استنادا لقيمة الآباء أن يرسل الله ملكا إلي الدنيا ينادي عبدا ماتت أمه أن رحلت التي كنا نكرمك من أجلها, أي أن وجودها في الدنيا كان رحمة بأولادها لا ثقلا وهما علي عاتقهم, ومن هنا كانت مرتبة الأم العليا في إخضاع أعتاب الجنة تحت أقدامها طبقا للوصف النبوي الشريف, والأم وإن تميزت في المقام عند الله لأنها بيت الرحم إلا أن مكانة الأب لا تقل عنها كثيرا وقد وضع الله دستورا للنسل المتوارث بين الآباء والأبناء في أن الرجل لا يبقي من بعد رحيله في الدنيا غير أشياء محددة علي رأسها ولد صالح يدعو له فإن كنت أنت يا ولدي ذلك الولد الصالح لأبيك لعل أولادك يكونوا لك نفس الموقف يوما ما..! لست قادرا علي استيعاب ما تحكيه سيدي من تحجر قلوب أولادك, صحيح أن من بينهم من يخدمنك, ويدبرن لك احتياجاتك اليومية, ولكن أين هذا من إحساس الراحة من الألم والسكينة من الوحدة وأنت تري أولادك من حولك علي فراش مرضك لعلهم يستفيقون يوما يعرفون فيه أن رعايتهم لك هي فرصتهم الأخيرة في الدنيا لمد جسور قوية للآخرة ولعلهم يستوعبون أن صفقة معه الله هي لمسة بر ووفاء تعود عليهم في الدنيا عند هرمهم برعاية أولادهم لهم وتعود عليهم عند الله رحمة وغفرانا وصدق المولي عز وجل عندما قال في محكم آياته: وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا الإسراء23 .24