في فراشها تجلس هادئة مستكينة, لم تعد تصرخ ألما فجذوة المرض المشتعلة في جسدها انطفأت و خبت من شدة صبرها تروي قلبها بقراءة القرآن كل صباح حمدا و صبرا علي البلاء.....! قبل بضعة أشهر كانت تجلس أمامي جاءتني شاكية حالها و قسوة المرض عليها و حرقة قلبها علي ابنها الذي سافر إلي أوروبا علي مركب من مراكب الهجرة غير الشرعية.. قالت لي يا ولدي أريد أن أطرق أبواب الرحمة من خلالك فلا أطيق نفقات المعيشة وحدي بعد أن هجرني ابني حتي علاجي لم أعد قادرة علي ثمنه....! نشرت حكايتها و بعث لها الله من أهل الرحمة من يستر شيخوختها بيد خير تساعدها علي الحياة.. و مرت شهور غير بعيدة علي هذا اللقاء ليأتيني اتصال من جارة لهذه السيدة العجوز تخبرني أنها تريدني و لا تستطيع مغادرة فراشها.. قبالتها أحاطني الصمت دقائق, كانت تصلي بعينيها لا تقوي علي النهوض.. مسحة البراءة تضيء وجهها, و ابتسامتها الراضية تعبق الحجرة الرطبة تحت بئر السلم بعبير خاص ليس لغيرها.. أشارت إلي فاقتربت و قالت: يا ولدي بيني و بين الموت عتبة و فايته الدنيا و ماليش فيها رجاء غير أمانة هاسيبهالك, تبعتها لابني الغايب من زمان يمكن يرجع في يوم قل له: قلب أمك انفطر عليك و اتقطع و إني استنيته كتير و ما جاش زي ما قاللي كانت كلماتها صادقة مؤلمة فهي تدرك انها النهاية, نهاية أم ثكلي يصرخ منها القلب الملتاع: اليوم أنا أرحل و ابني ليس جواري.. لن يواريني الثري, ترك واجبه لأهل الخير.. أنا غير كارهة له بل راضية عنه و أريده أن يأتيني عندما يعود إلي حيث أرقد تهدأ روحي لمقدمه.. طمأنتها أني أمين علي ما أوصت فبادرتني رسالتي الأخيرة أمانة في رقبتك و قله إني مستنياه....! قلت لها: ما يدريك يا أمي أنه مازال علي قيد الحياة لعله هناك في معية خالقه و هو من ينتظرك الآن فالرحلة التي أقدم عليها متهربا عبر البحر مخاطرة غير آمنة و كثيرون من أبنائنا فاضت أرواحهم غرقا في رحلات هجرة غير شرعية من هذا النوع.. و لكنها قالت لي: لو مات كان قلبي قالي.. لسه حي قلبه هو اللي مات, انعدمت فيه الحياة و نسي أمه. لفظها تموت وحيدة, منكسرة, أكل منها المرض و أشبعها ألما و حوجة للناس.. في حضرة الموت تلقيت وصية الأم العجوز و انصرفت مع حيرتي أتساءل من أين لي بابنها و كيف لي أن أبعث له برسالتها.......!! أيام مضت قضت فيها المرأة نحبها وحيدة و وريت التراب في مقبرة تابعة لأحد المساجد و بقيت كلماتها لابنها تنبض بالحياة.. أكتبها له علها تصل إليه. .. يا ولدي إن الله لم يضع أحدا في مكانة عالية بقدر الأم حتي أنه جل علاه جعل من شروط دخول الجنة رضا الأم و تبعا للتعبير النبوي الجنة تحت أقدام الأمهات فكيف لك أن تغادرها مريضة, مسنة, عاجزة, في حاجة للناس و أنت علي قيد الحياة هل طاوعك قلبك أن تفكر في السفر من دونها ؟ و إذا كنت لم تجد فرصتك في بلدك ووجدت من المبررات ما يدفعك للهجرة بحثا عن لقمة العيش فأين أنت الآن منها و قد ماتت تتألم لفراقك ؟.. لم تكن غاضبة عليك لعقوقك و هجرك لها.. تحبك و تشتاق إليك رغم قسوتك عليها.. تأهبت للقاء ربها و لكنها تركت لك موعدا تلقاك فيه عندما تأتي و تزورها في مثواها الخير. يا ولدي لا أدري إن كنت علي قيد الحياة أم فارقتها و لا أدري إن كانت هذه الكلمات المفعمة برجاء أمك يمكن لها أن تصلك أم لا, و لكني أملي في الله كبير ان تكون حيا و تقرأ ما أمنتني أمك عليه من رسالة و تصلك في أقرب وقت و اعلم يا ولدي انك لن تنال رضا الله إلا برضا أمك.. و لكل ابن ضال لا يرعي حق أمه و أبيه كتبت هذه القصة فقد قال الله تعالي في كتابه الكريم: وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما* واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا, الإسراء:24,23],