هل يلزم أن يكون كل ما يتعرض له الإنسان في حياته واضحا غاية الوضوح, حتي يستريح عقله ويطمئن قلبه إلي الحكمة الكامنة وراء كل ما أصابه؟؟ هل يستطيع العقل إن حاول ذلك أن يحيط علما بكل ما يجري له أو يدور حوله من أحداث؟؟ وعلي فرض أنه حاول وصمم علي المحاولة, فهل يستطيع أن يحل مشكلة( المعيار) أو( الميزان) الذي يحكم به علي الحياة وما يجري فيها من أحداث؟ ذلك لأنك لا تستطيع أن تحكم علي أمر دون أن يكون لديك معيار ثابت ترجع إليه وتميز به; وإلا جاء حكمك ناقصا وظالما لأنك حكمت علي جزئية من جزئيات الحياة في زمن ما, ومكان ما, ومن وجهة نظرك أنت, دون أن تنظر إليها, في إطار موقعها وحجمها من الكون الكبير, الذي تعيش فيه, بل ودون أن تنظر إلي ما قبلها وما بعدها من أحداث.. وهذا ما يسميه علماء اللغة والبلاغة, بالسياق.. فكل حدث يقع لنا أو حولنا إنما هو جزء من حدث قد مضي وآخر آت عما قريب, والعقل السليم والمنصف هو الذي يراعي ذلك ويبني عليه أحكامه ومواقفه.. *** قد يقول الإنسان, وكثيرا ما يقول, إن ذلك الأمر خير لي أو شر أو ظلم أو ضرر أو نفع.. وهذه كلها أمور نسبية أي أن الحكم عليها يختلف من إنسان إلي آخر ومن وقت إلي آخر ومن مكان إلي آخر, لأن هذه آفة من آفات الفكر الإنساني.. فكم من الأمور رآها الإنسان خيرا ثم اتضح له بعد ذلك أنها شر عظيم والعكس صحيح كذلك... وكم يخرج الخير من الشر ويخرج الشر من الخير... وهذا كله علي مستوي النظر الدنيوي الذي يقدر الخير أو الشر والضر والنفع بمقاييس هذه الحياة الدنيا, غافلا عن الدار الآخرة التي هي الحياة الحقيقية فعلا.. *** وفي إطار هداية القرآن الكريم للعقل الإنساني, عالج المشكلة التي تواجه البشر بسبب نقص المعرفة ومن ثم الوقوع في الخطأ عند الحكم علي الأمور, بأمرين أولهما, أنه نبه الإنسان إلي نقصان علمه بالحياة مهما بلغ من العلم فقال:( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).وقال:( وعسي أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسي أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون). ولم يكتف بذلك بل قدم نموذجا عمليا علي نقصان علم الإنسان وعدم إحاطته بكل ما يقع في هذه الحياة, وذلك من خلال قصة موسي مع العبد الصالح, إذ كان علم موسي يشير إلي العلم البشري الذي يحكم علي الأمور بظواهرها, وعلم العبد الصالح يشير إلي العلم الإلهي الذي يري ما كان وما هو كائن وما سوف يكون, وذلك في لقطات كاشفة تعطي درسا مفاده أن الإنسان يظلم نفسه ويقع في الخطأ إذا حكم علي الأحداث التي تمر به, بما يبدو لعقله أو ينكشف له, دون أن يفكر, ولو للحظة واحدة, في العواقب أو النتائج, التي أخفاها القدر قصدا ورحمة ولطفا, ليختبر العباد.. وذلك أن استحضار العواقب والنتائج الخفية كثيرا ما يساعد الإنسان علي تقبل ماجري.. لأنه يقارن بين ما وقع وما كان يمكن أن يقع فيري الألطاف الربانية التي رأي بها يوسف ما تعرض له في حياته منذ صغره فقال:( إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم).