تعلمت عبر تجارب عديدة, أن السعادة معني مراوغ يصعب وأحيانا يستحيل- الإمساك به.. منكم من أكاد أسمعه يسأل نفسه عما يدعوني للكتابة عن السعادة في الوقت الذي أصبحت فيه نادرة؟ لا أعرف بالتحديد.. لكن قد يكون هذا هو السبب بالذات! فما أن تقابل أحدهم حتي يباغتك بالحديث عن مدي تعاسته وعن طعم الحياة الذي تغير ليصبح مرا, وعن نفوس الناس التي لم تعد علي ما يرام.. حتي بعد الأحداث الأخيرة التي غيرت شكل الحياة السياسية في مصر, وجعلت الحلم بغد أفضل شيئا ممكنا, مازال الناس غير سعداء. نظرة واحدة لوجوه من حولك تقنعك بأننا أصبحنا أمه من المكتئبين. وكما كل شيء حولنا في عصر ما بعد الحداثة هذا, تحولت السعادة إلي تخصص.. نعم تخصص.. بل تخصص دقيق, تنشأ له المراكز التي تنظم ورش العمل والمحاضرات والدورات التدريبية. انتشار كبير للمراكز التي يديرها أجانب غالبا, وتعد( زبائنها) بتدريبهم علي الضحك بشكل صحيح, وبمحاضرات تساعدهم علي فهم الكون وبالتالي فهم أنفسهم فيعيشون حياة مليئة بالسعادة..! أنا لا أناقش قدرات هذه المراكز ولا أشكك في نواياها ولا أسفه من الموضوع, لكني أحاول رصد ظاهرة البحث عن السعادة في محاولة لفهمها.. فجأة أصبحت السعادة مطلبا جماعيا يسعي خلفه الجميع, وبينما كان الناس قديما يبلغونها ولو ببعض الجهد, أصبحت اليوم كقلعة منيعة مستعصية علي الناس من كل الطبقات والأطياف والأعمار. وقد يعتقد البعض عن عدم دراية- أن رواد المراكز المذكورة من الأجانب بالتأكيد, مادام أصحابها كذلك, ولهؤلاء أقول إن الحقيقة غير ذلك, وزيارة واحدة لمركز منها ستؤكد أن علي الأقل90% من الرواد مصريون, ورغم أن الإعلان عن تلك المراكز يتم من خلال شبكة الانترنت أو بنشرات يتم تداولها بين دوائر الأصدقاء, إلا أنها تلقي إقبالا ورواجا يجعل من الظاهرة البحث عن السعادة- مادة مغرية لعلماء النفس والاجتماع لدراستها. مراكز جديدة يتم افتتاحها علي فترات متقاربة وأصحابها واثقون من الربح, لم لا وهم يتعاملون في سلعة عزيزة غير موجودة.. ورغم أن السعادة معني مطلق ومسألة نسبية لا يمكن الإمساك به كالعدالة والجمال والخير.. إلخ, إلا أن المعجزة هنا أن هناك من نجحوا في جعلها سلعة تباع وتشتري.. هل رأي أحدكم من يشتري عدالة أو خيرا أو جمالا؟.. إذن لا تدعوا الفرصة تفوتكم! إحدي قريباتي تواظب منذ عامين علي حضور ورش عمل عن الضحك, في أحد المراكز المملوكة لسيدة ألمانية بالزمالك.. ورغم أن الأمر يكلفها ماديا إلا أنها تشعر بأن الأمر يستحق. ومعظم تلك المراكز تعتمد الطرق الصينية القديمة في عملها, مراكز للعلاج بالشين تاي والريكي والفليكسولوجي والطاقة ومساراتها( الشاكرا والميريديان), ومراكز لقراءة أوراق التاروت- التي تشبه أوراق اللعب( الكوتشينة) وإن كانت أكبر حجما وأكثر عددا ولها ألوان زاهية- بالاعتماد علي نظريات كارل يونج تلميذ فرويد الذي فاقه موهبة كما يزعمون, ومراكز تعتمد كاميرا كيرليان منهجا لها, وهي كاميرا تظهر الهالات الحيوية التي تحيط بالبشر الأورا-. وقد اكتشفها العالم الروسي سيمون كيرليان. والكاميرا المذكورة تعمل في وجود حقل مغناطيسي عالي التردد عالي الفولت منخفض الأمبير, هكذا تظهر حول الأجسام هالات ملونة تسمي الهالات الحيوية, يمكن من خلالها قياس الحالة المزاجية للأشخاص مما يمكن المعالجين من معرفة مدي إكتئاب المريض, وإستعداده لتقبل السعادة الموعودة.. ومراكز أخري تدار بواسطة الأجانب أيضا لكنها تتخذ من قدماء المصريين مثالا هذه المرة.. حيث يحاولون فيها إحياء علوم الأهرام, ويعقدون المحاضرات وورش العمل التي تحكي عن الطاقة الكونية الكامنة في الفراغ الهرمي, وتأثير كل ذلك علي الإنسان وجهازه العصبي والمناعي وسائر أنشطتة الحيوية والذهنية.. في تلك المراكز يمكنك أن تسمع لأول مرة عن العلاقة بين هندسة بناء الهرم وأبعاده والأرض والمجموعة الشمسية.. وعلاقة الطاقة الكونية فيه بالكائنات الحية, وعلاقة هذا كله بالطاقة والترددات والأطياف.. ووصل الحماس ببعض المراكز إلي وضع هرم خشبي له نفس أبعاد أهرامات الجيزة بمقياس أصغر طبعا- داخل قاعات المراكز, بحيث يتمكن المتحمسون من الزبائن من النوم داخلها, حتي يحظوا بمشاعر إيجابية تحقق لهم السعادة. عشرات المراكز والعديد من الطرق التي تعدنا بالسعادة..ويبدو أن قصور الحياة الحديثة عن منحنا السعادة التي ننشدها, إو للدقة أكثر فلنقل يبدو أن إخفاقنا في تحقيق السعادة والإحساس بها, دفع البعض إلي تجربة كل شيء وأي شيء.. والوقت وإن كان مازال مبكرا للحكم علي جدوي تلك الطرق, خاصة وأن القياس سيكون صعبا إلا أنني وبشكل شخصي يمكنني القول أن السعادة التي نحصل عليها من التفاصيل الصغيرة في حياتنا أفضل بكثير مما تعدنا به تلك المراكز مهما كانت النتيجة, صحيح أن الحياة تعدنا بالقليل, لكنه القليل المؤكد.. بعبارة أخري السعادة التي نحصل عليها ببعض الجهد من المتاح لنا في الحياة, هو الحقيقة المحدودة, أما ما تمنحنا إياه تلك المراكز فهو الخيال بكل بهائه وجماله. وبعد تجربة هذا وذاك مازلت أؤمن بأن السعادة لا تكمن في أي مكان خارج عقولنا, وإذا كان هناك من يمكنه أن يمنحنا السعادة بطرق( صناعية), لغدت الحياة أجمل من أن نحياها..