لم تكد أسلحة القوات العسكرية المختلفة العاملة علي الأرض السورية تهدأ بعد الانتهاء من دحر داعش في كل دير الزور والرقة, حتي بدأت معارك كثيرة مؤجلة في التسارع علي الأرض. تتجدد المعارك علي الخريطة السورية اليوم لأسباب مختلفة وبأيدي فاعلين مختلفين يسعون لتثبيت نفوذهم علي الأرض بما يعكس ميزان قوي أقرب لمصالحهم, قبل البدء بالجولة القادمة من المفاوضات الأسبوع المقبل سواء كانت في سوتشي برعاية روسية أو في أوروبا, فيينا تحديدا بعد جنيف, برعاية أممية. إدلب تجدد العنف في إدلب خلال الأسابيع الماضية عندما سعي النظام السوري, ونجح في مسعاه, إلي التقدم من ريف حماة الشمالي إلي ريف إدلب الجنوبي لكي يستعيد السيطرة علي عشرات القري التي كان قد فقدها خلال السنوات الماضية. ولعل لإدلب رمزية خاصة, إذ طردت قوات النظام السوري منها بالكامل ريفا ومدن منذ مطلع العام.2015 إذ أصبحت منذ ذلك الحين المعقل الأساسي للمعارضة السورية, التي شكلت هياكل مدنية لإدارة المحافظة الشمالية والسهر علي توفير الخدمات للأهالي. وبالتالي أصبحت إدلب هي الوجهة الأساسية التي يقصدها أنصار المعارضة من جميع أنحاء سوريا, عندما تحاصر مناطقهم ويخيرهم النظام بين الاستسلام لسلطاته أو بين الخروج الي إدلب. استطاعت إدلب أن تحافظ علي بقائها المستقل كمحافظة معارضة لعدة سنوات بسبب محاذاتها للحدود التركية وبالتالي عجز النظام عن محاصرتها ومنع إدخال السلع المختلفة إليها, كما فعل في ريف الشام ومناطق أخري. من جهة ثانية تحتضن إدلب تشكيلات عسكرية مختلفة فهي تضم قوات من الجيش السوري الحر القريب من تركيا, وكذلك حركة أحرار الشام بالإضافة إلي هيئة تحرير الشام( جبهة النصرة سابقا) التي لم تأل جهدا لإقناع السوريين بتغيير أجندتها منذ أعلنت فك ارتباطها بالقاعدة. واللافت في هذا الأمر أن فك الارتباط المزعوم لم يقنع الكثيرين من قادة التشكيلات العسكرية السورية في إدلب بل علي العكس, دخلت حركة أحرار الشام خلال العام الماضي في مصادمات متعددة مع هيئة تحرير الشام علي خلفية انشقاقات متبادلة وحرب نفوذ للسيطرة علي الموارد والمناطق الإستراتيجية في المحافظة الشمالية. والمفارقة هنا أن معركة تحرير إدلب من سيطرة النظام في مطلع2015 جاءت بعد تكون غرفة عمليات مشتركة بين فصائل معارضة جنبا إلي جنب مع جبهة النصرة آنذاك تحت مظلة ما عرف حينها بجيش الفتح. ولكن بعد إطلاق عملية المفاوضات علي فترات متباعدة خلال العامين الماضيين, بدا واضحا التمايز في التوجهات السياسية والأيديولوجية بين مكونات هذا التحالف الهش. حيث أقبل عدد من التشكيلات المسلحة في إدلب علي قبول خطوات التسوية السياسية ووافقت علي الالتزام بمناطق خفض التوتر المنبثقة عن مفاوضات الأستانة, فيما رفضت هيئة تحرير الشام هذه التسوية جملة وتفصيلا. وإثر تصدع التحالف القائم بين فصائل إدلب العام الماضي, لم يكن صعبا علي قوات النظام السوري أن تزحف بريا لتستعيد عشرات القري وصولا إلي مطار أبو ضهور الإستراتيجي. فمن يسيطر علي المطار الحربي يستطيع أن يعزز من سيطرته علي إدلب, ولذا تشتد المعارك حاليا حول المطار بين مختلف الفصائل وبين قوات النظام الزاحفة إليه. مقصد النظام السوري من هذا الزحف نحو إدلب هو مد سيطرته إلي آخر المعاقل القوية للمعارضة كي يستطيع الذهاب من موقع قوة إلي جولة المفاوضات القادمة.
عفرين استغرب المراقبون من السقوط السهل لقري إدلب في يد قوات النظام السوري خلال الاسابيع الماضية, وكيف سمحت تركيا بالتقهقر المتلاحق لقوات الفصائل السورية التي تدعمها. ولكن عندما تم الإعلان عن العملية التركية غصن الزيتون في عفرين, تبين أن شبه مقايضة ضمنية قد حدثت بين الأتراك من جهة وبين الروس والنظام السوري من جهة أخري حول إدلب وعفرين. تهتم تركيا بشكل استثنائي بمناهضة نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا, وتراقب بقلق شديد تصاعد نفوذ قواته, قوات سوريا الديمقراطية, منذ حظت بدعم عسكري ولوجيستي كبير من التحالف الدولي لقتال داعش منذ خريف.2014 وكانت المعضلة الأساسية بين أمريكاوتركيا في الحرب علي داعش, إن الأمريكيين فضلوا دعم قوات سوريا الديمقراطية- قسد لقتال داعش وطردها من الرقة, فيما كان الأتراك يعتبرون أن خطر الأكراد لا يقل عن خطر داعش, إذ تصنف تركيا القوات الكردية كتنظيم إرهابي. ولكن بعد انتهاء المعركة مع داعش, أصبحت المصلحة التركية ملحة في التخلص من نفوذ قوات قسد خاصة غرب نهر الفرات في شمالي حلب, وبالأخص في عفرين ومنبج. وعلي عكس الدعم الذي قدمته أمريكا للقوات الكردية في الحسكة وهي المعقل الأساسي للأكراد وتقع شرق نهر الفرات, كان الوجود العسكري الكردي غرب الفرات غير مرحب به. إذ تم إرساء معادلة ضمنية تتلخص في أن قسد شرق الفرات تقاتل داعش وبالتالي تحظي بالدعم الأمريكي, في حين أن قسد غرب الفرات تسعي لتوسيع النفوذ الكردي وتستفز الغضب التركي ولذا تبقي مكشوفة وبلا دعم. ولكن عقب الإعلان الأمريكي عن إنشاء قوات حدود كردية لكي تنتشر علي الحدود السورية مع كل من تركيا والعراق, فعلت أنقرة خطها القديمة بدك حصون قسد في عفرين, كما عززت زحف الفصائل السورية الموالية لها لكي تتقدم بريا لمحاصرة المدينة لحين خروج المقاتلين الأكراد منها وإعادة الأسر العربية التي نزحت منها. وقد استفادت تركيا في هذا الخصوص من الاستياء الروسي من الدعم الأمريكي للقوات الحدودية الكردية المرتقبة, إذ اعتبرتها تعزيزا للنزعة الانفصالية لدي أكراد سوريا. وهو ما يفسر عدم معارضة موسكو للعملية التركية, بل إنها تلعب دور الوسيط في تنسيق المصالح بين أنقرةودمشق فيما يخص السيطرة علي الطموح الكردي المعزز بالدعم الأمريكي. ورغم ذلك فإن التفاهم الروسي التركي في المسألة الكردية لا يمتد ليشمل التسوية السياسية, إذ تصر موسكو علي دعوة الأكراد إلي سوتشي الأسبوع المقبل, فيما ترفض تركيا هذا الطرح. بينما تتردد المعارضة السورية الممثلة بهيئة التفاوض في المشاركة ضمن مؤتمر سوتشي, الذي تعتبره التفافا روسيا علي آلية التفاوض في جنيف بوساطة أممية. إذ تتخوف المعارضة أن يكون مسار سوتشي بديلا عن جنيف وفق شروط روسيا التي لا تألو جهدا في حماية بقاء الأسد في موقعه. بينما تبقي آلية جنيف( التي تنتقل الأسبوع المقبل إلي فيينا) غير فعالة حيث لا يبدي النظام السوري الجدية اللازمة إزاءها ولا يبدو مضطرا لتقديم تنازلات سواء بالتخلي عن رأسه, الأسد, أو التفاوض الجاد لتقاسم السلطة, أو حتي التوقف عن استخدام السلاح الكيماوي في معاركه خاصة في ريف دمشق, كما حدث هذا الأسبوع.