قبل أن أكتب لك ترددت كثيرا فقد كنت أعيش منعزلة عن الناس تماما لفترة طويلة تعرضت خلالها لمعالجات نفسية وجلسات تأهيل اجتماعي أعانتني علي الخروج بعض الشيء من شرنقة اليأس الذي أحاطني بسياج مطبق علي قلبي وروحي أختنق منه ببطء إلي ما لا نهاية ولكني مازلت أشعر بالعجز وإن كنت قد حققت بعض التوازن النفسي واستطعت تجاوز أزمتي في التعامل مع الناس بل وخرجت إلي عملي بعد أن ابتعدت عنه قرابة السنوات الثلاث السنوات هي عمر عزلتي منذ أن فقدت ابني الوحيد في تجربة هي الأقسي والأشد ألما في حياتي بعد صراع طويل مع مرض شرس لا يرحم نشب أنيابه في جسد ابني الوحيد بلا رحمة فانطفأت جذوة الحياة في قلبه واتشحت البراءة بالسواد في ليلة لم يعقبها نهار جديد, كنت أحتضنه بكلتا ذراعي وكأني أتشبث به كي لا يغادرني, أصارع الموت بقلب أم يكتوي خوفا وفزعا, خارت قواها فاستسلم اليأس منها وتواري الأمل شيئا فشيئا, تحشرجت روح الصغير وأبي إلا أن يستريح من عذاباته بالموت نهاية لكل شيء. كنت أصرخ بملء في أناديه توسلا ورجاء ألا يغادرني فروحي متعلقة به تأبي علي أن تستكين بدونه. ولكنها الأقدار كتبت علي الموت علي قيد الحياة أما ثكلي ليس لها من سند في الحياة غير زوج لم يكن لها سند ولا رفيق فهو يعلم أني بعد ولادتي ابني الراحل عقم الرحم مني ولم أعد قادرة علي الإنجاب.. لم يمض عام علي رحيل ابننا حتي انفصل عني لم يطق حزني وحالتي النفسية المتردية, لم ينفق مليما واحدا علي علاجي قرر أن يقفز من السفينة سريعا قبل أن تغرق وراح لامرأة أخري يبحث بين يديها علي عوض تنجبه له.. غادرني وأنا غائبة عن الدنيا تسري الدماء في عروقي بلا حياة.. ومضت الأيام بطيئة تتثاقل الأحزان فيها يوما بعد يوم بذكريات بطعم الموت أريده راحة وشوقا لصحبة ابني وأملي في الحياة. و لكن عيشي علي الدنيا لم ينقطع وتجاوزت عزلتي ببطء تأهلا وتعايشا حتي استفقت شيئا فشيئا وطوال فترة مرضي كانت أمي إلي جواري تضمض بحنانها جراحي حتي تلتئم, أستمد منها قوتي وألملم بقايا إرادة تزرع في النفس صبرا وصلابة.. اصطحبتني إلي الأراضي الحجازية معتمرة تتطهر النفس مني بيقين راسخ في حكمة الله وقدره وأملا أن أطوي صفحات الذكريات المؤلمة وأبدأ من جديد. هناك توافقت مع نفسي من جديد وامتلأت نفسي صفاء وراحة, كنت أغمض عيني أري صغيري يطوف من حولي بجناحي ملاك, يبتسم لي, يمد لي يد البراءة ينتشلني من عثرتني, يهب لي أملا لم يكن له وجود ويعدني باللقاء يوما نشرب فيه سويا من أنهار الجنة ترياقا وشفاعة وأملا في رحمة الله ورضوانه. عدت مع أمي وقد ولدت من جديد, بقلب ينبض بالأمل, وعدت لعملي لم يعد يعنيني الرجل الذي كان لي زوجا وغادرني نكرانا, كل ما أفكر فيه كيف أتقرب إلي الله وأحتمي بعباداتي من الذلل واليأس, ولكن أزمتي لم تتوقف عند هذا الحد فأمي تريدني أن أبدأ حياتي من جديد, أتزوج من رجل آخر وعبثا حاولت أن أقنعها أني بقايا امرأة لا أصلح لحياة رجل أعذبه معي ولا أهبه الذرية التي يريدها. أتألم كثيرا لعجزي عن إرضاء أمي وإسعادها بموافقتي, أراها تتألم لي وليس أمري في يدي. كيف لي العيش مع رجل بأطلال روح وذكريات لا تفارقني؟ كيف أعيش معه مستقبلا وأنا مازلت رهينة ماض لا يغادرني؟ ك. ن. الإسكندرية ترفقي بنفسك يا ابنتي فما تحملين به نفسك من ثقل أكبر مما تتحمله قدرتك علي التعايش مع الحياة التي وهبها لك الخالق عز وجل.. حاولي أن تعيدي قراءة الأحداث المؤلمة التي مررت بها وكيف تهاوت بك الدنيا حتي أصبحت علي حافة النهاية منها ولولا رحمة الله بك ما استمرت بك الحياة ولكنه سبحانه وتعالي وهبك فيها العيش من جديد وهذا لحكمة كما كانت الأقدار بك قاسية لحكمة لا يعلمها غيره عز وجل وان كنت علي حد تعبيرك استطعت التوافق مع الحياة وتجاوز اليأس فلما لا تتمسكي بالأمل من جديد وكما تقلبت بك صفحات الدنيا يأسا بالتأكيد مازالت هناك صفحات ملؤها الأمل واليقين بالله وسعادة تنتظرك هي الرسالة التي أرسلها لك ابنك بابتسامته الملائكية ويد يمدها لكي تنتشلك من الماضي لحياة جديدة تبتسم لك الدنيا فيها من جديد. صدقيني يا ابنتي أن أمك التي حاوطتك بحنانها لا تريد لك غير الخير وأن تطمئن عليك قبل أن ترحل عنك فهي لن تعيش لك أبدا وما تريده لك لهو الصواب تصلحين به نفسك وروحك الملتاعة. و تذكري قول الله تعالي( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) وقوله تعالي( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات) هذا وعد من الله سبحانه وتعالي كتبه علي عباده وأنه سيكون لكل عبد نصيب منه أصلح الله نفسك للخير وعوضك عن البلاء صبرا وسعادة إن شاء الله.