والسؤال الذي يكاد يفلق رأسي هو: كيف يسمح هؤلاء لأنفسهم أن' يزينوا' لحكام اليوم فكرة' الانقلاب' علي' إرادة الشعب', وهو أمر لو حدث يضع مفهوم وأساس الدولة المدنية التي ينادون بها في مهب ريح صرر عاتية فوق احتمالهم, تسيرنا إلي المجهول؟! أخشي أن نتوه وتتوه بنا السبل إلي غير ما نريد, إذا نحن أصررنا علي أن نقسم البلد بين فسطاطين: فسطاط الداعين إلي وضع الدستور أولا, وفسطاط المنادين باحترام إرادة الشعب التي ظهرت واضحة جلية في الاستفتاء علي التعديلات الدستورية. والحق أنني لست أعرف من هو صاحب المصلحة في أن تمتلئ الساحة السياسية المصرية بكل هذه' الفزاعات' التي تشد الأنظار عنوة عن المشهد الحقيقي الذي يجب أن تتركز عليه الأنظار, وتجذب خطواتنا بعيدا عن' التراك' الذي يجب أن تتحرك عليه الأقدام؟ ' الفزاعات' هي لعبة النظام السابق بامتياز, نجح من خلالها أن يستمر فوق تلال الخوف التي صنعها ورعاها وجعل منها سواتر ترابية تعزل فئات المجتمع ومكوناته بعضها عن بعض. كانت لعبته المفضلة في الداخل, كما كانت لعبته المؤثرة في الخارج, وكانت النتيجة التي يسعي إليها هي استمراره كخيار وحيد, مقبول رغم ما فيه من سوءات وعورات, وقد استخدم الكل ضد الكل في لعبته الأثيرة. كان الإخوان والتيارات الإسلامية جميعا هم' الفزاعة' التي يخوف بها الأقباط, ويفزع بها قلوب الليبراليين والعلمانيين وأصحاب الاتجاهات اليسارية عموما, كما احترف النظام السابق لعبة التخويف العكسي, بأن يستخدم هؤلاء جميعا لتخويف أصحاب الاتجاهات الإسلامية علي دينهم. ثم جاء المشهد الرائع في ميدان التحرير ليجمع نخبة مميزة منتقاة من كل هذه التيارات والاتجاهات, كانت أغلبيتهم الكاسحة من الشباب, بدت خلاله مصر وكأنها قررت الخروج الجماعي من لعبة النظام, وأنها مصممة علي نزع الخوف, وإسقاط الفزاعات, فالتحمت قوي المجتمع الحية في لحمة بدت عصية علي الاختراق, ولا يزال مشهد الشباب القبطي وهو يحرس المسلمين وهم يؤدون صلاة الجمعة في قلب ميدان التحرير يهز قلبي فرحا واعتزازا وفخرا بكوني واحدا من هؤلاء المصريين. وكانت النتيجة أن سقط النظام, وسقطت معه الفزاعات, والحواجز والسواتر المصطنعة, واليوم وبعد شهور عدة يعاود البعض بوعي أو بدونه ممارسة اللعبة نفسها, لعبة تفزيع مكونات المجتمع الوطني المصري بعضها من بعض, ويعود الانقسام مرة أخري في وقت لا فريضة فيه غير فريضة التجمع والالتحام والتوحد من أجل عبور الفترة الانتقالية بطريقة آمنة, وعلي الطريق التي ارتسمت معالمها في الاستفتاء علي التعديلات الدستورية. ولقد كان لي حظ وشرف مناقشة الكثيرين ممن أوقن بحسن وصدق نواياهم وتوجهاتهم الوطنية حول قضية القضايا التي تتصدر جدول أعمال الوطن اليوم, تلك التي تم تلخيصها في شعار: الدستور أولا, وأعترف أنني خرجت من هذه النقاشات الطويلة والمعمقة, الصارخة أحيانا والهادئة أحيانا أخري, بأن الحجج التي تقال مبنية علي شيء واحد هو ذلك الخوف الذي يسكن قلوب قوي كثيرة ممن يرفعون شعار' الدستور أولا' من نتائج الانتخابات المقبلة, إن هم تركوها تجري في الموعد المضروب لإجرائها. وهم يبنون فوق هذا التخوف كل أسبابهم ومبرراتهم وحججهم لتفادي إجراء الانتخابات في موعدها المقرر, ولست أفهم سببا واحدا من أسباب هؤلاء الذين رفعوا ولا يزالون يرفعون لواء الديمقراطية, بل ودفع كثير منهم الثمن غاليا, ثم ينقلبون اليوم إلي المطالبة بما لم يخطر علي بال أحد أن يعاد النظر في نتائج استفتاء شهد بنزاهته وعنفوانه العالم أجمع. ولست أري سببا واحدا مقنعا لرفع شعار الدستور أولا, وتأجيل الانتخابات التشريعية إلي أجل غير مسمي في خطة هؤلاء الديمقراطيين الذين يعرفون قبل غيرهم أن هناك إرادة شعبية جارفة وصلت إلي ما فوق77% من المصوتين علي الاستفتاء بالتعديلات الدستورية, ويعلمون يقينا أن إرادة تلك الأغلبية انعقدت علي قبول خارطة الطريق التي تبدأ بإجراء الانتخابات التشريعية وتنتهي بوضع دستور جديد للبلاد, وبآليات جري التصويت عليها بالموافقة المليونية. لن يفيد هؤلاء الديمقراطيون القول بتعديل هنا أو تغيير لفظ هناك في نص إحدي المواد التي جري الاستفتاء عليها, فالاستفتاء في حقيقته جري علي خريطة طريق واضحة المعالم, انقسم عليها المصوتون إلي موافقين فاقت أعدادهم أربعة عشر مليون مواطن, ورافضين اقتربت أعدادهم من خمسة ملايين مواطن. ولست أفهم حتي اليوم كيف أن كل دعاة الدولة المدنية الحديثة التي لايمكن لها أن تقوم إلا علي أسس ثلاثة هي: حكم الأغلبية, وتداول السلطة, واحترام الحقوق المدنية والسياسية لكل المواطنين بدون تمييز, يقف مثل هؤلاء اليوم صفا واحدا في مواجهة أحد أهم هذه الأسس وهو احترام قرار الأغلبية. والسؤال الذي يكاد يفلق رأسي هو: كيف يسمح هؤلاء لأنفسهم بأن' يزينوا' لحكام اليوم فكرة' الانقلاب' علي' إرادة الشعب', وهو أمر لو حدث يضع مفهوم وأساس الدولة المدنية التي ينادون بها في مهب ريح صرر عاتية فوق احتمالهم, تسيرنا إلي المجهول؟! والحق أني لا أري مجالا لهؤلاء بالتحجج بالحالة الأمنية ولا بالبلطجية ولا حتي بعدم توافر الوقت الكافي للأحزاب والقوي الجديدة الناشئة بعد الثورة, لأنها فيما أري حجج ساقطة لا تقوم علي أساس متين, فالاستفتاء علي التعديلات الدستورية الذي يريدون الانقلاب علي نتائجه اليوم, تم بصورة هي الأروع في تاريخ الاستفتاءات منذ عرفت مصر هذا الشكل من أشكال الاحتكام إلي الشعب في أمر من أموره العامة والمهمة. ثم إن القوي الجديدة ستبقي في حاجة إلي وقت إضافي سواء أجريت الانتخابات في موعدها المضروب, أو أجلت إلي ما بعد إقرار الدستور, لأن الأمر لن يتعدي في جميع الأحوال فروق وقت كافية في عرف علم الاجتماع السياسي لكي تتمكن هذه القوي الجديدة من الوجود الفعال والمؤثر في المجتمع, بل ربما تعطي القوي الأخري الجاهزة فعلا وقتا مستقطعا لمزيد من الاستعداد والجاهزية. ما يثير استغرابي وربما حيرتي أن هؤلاء يبدأون وينتهون عند نقطة واحدة هي التخوف من احتمال فوز فصيل أو تيار معين بالأغلبية, وهو لعمري أمر محير فعلا أن تقف القوي الديمقراطية في وجه انتخابات قد تأتي لغيرهم بأغلبية لا يرضون عنها.! أيها الأخوة الديمقراطيون: أرجوكم أعيدوا حساباتكم من جديد, واستعدوا للانتخابات بدلا من تضييع الوقت المتبقي فيما لا يجدي ولا طائل من ورائه. كاتب صحفي ونائب رئيس تحرير جريدة العربي