تناولنا في المقال السابق ما ترتب علي الوعد( المشئوم) من تداعيات و نتائج بعدما بات تبادل الأدوار حتما مقضيا, حيث أصبح الشتات فلسطينيا و الخيار بين العزلة أو صفة عرب إسرائيل أشد وطئا . فضلا عن المواجهات التصفوية لأي اعتراض منذ ثورة البراق عام1929 و حتي الانتفاضة المباركة مرورا بدير ياسين و قانا, حيث ظلت وجوه الجلادين قائمة بعدما تحولوا من الزعامة العصابية إلي القيادة السياسية. لتصبح تطلعات اليهود الصهاينة بالوعد البريطاني- الأوروبي بمثابة واقع مرير تفشت خلاياه في الجسد العربي بحروب أربع فمعاهدة( سلام) و حتي التعايش و التطبيع ليعبث الذئب بعدها و كيفما يشاء في مقدرات القاصية من القطيع. وفي الواقع لم يعد الأمر المطروح يرتبط باجترار الذكريات و الترحم علي الشهداء أو توزيع الاتهامات بالعمالة و الخيانة علي مدي قرن من الزمان, بل أصبح السؤال الملح هو عن مدي بقاء الوضع لمئوية جديدة و أي سبيل يمكن أن يقودنا إلي الخلاص من هذه الربقة المهينة. فالقاريء للوضع برمته قد يستشرف ثمة ملامح في الأفق مؤداها فردية الحلول و التسليم بالأمر الواقع, بل و السعي لتعايش( سلمي) بشروط لا سلام فيها و لا طمأنينة. أما علي مستوي التاريخ و دروسه فالمعروف أن الدول التابعة إنما ترهن وجودها بمدي استمرار الدولة المتبوعة, كما أن الدول ذات الطبيعة العنصرية دينية كانت أم عرقية أو غيرها محكوم عليها بالفناء وفق نظرية الحتم التاريخي. ولعل هذا الأساس النظري قد يبث بعضا من الأمل في استرداد الحق المغتصب, شريطة أن تتوافر الإرادة الحقيقية للبدء. بيد أن العائق الرئيسي لذلك قد يتمثل في طول الأمد أمام النفس القصير, فمثل هذه الطموحات القومية لا تستهوي الزعامات الراغبة في تحقيق أمجاد زائفة علي الطريقة القذافية مثلا و في أقل وقت ممكن. و لنا في مؤتمرات بازل أسوة حسنة, فمنذ طرح الفكرة عام1897 و في غضون الأعوام العشرين صدر الوعد, في حين استلزم إعلان الدولةمرور نصف قرن و عام ليعترف بها المجتمع الدولي السيادي فوريا, لتبقي لنا مفردات الشجب و المقاومة العشوائية حصريا. حقيقة أن توازنات القوي في المجتمع الدولي تتأرجح وفق اعتبارات تاريخية و سياسية متعددة, إلا أن الشروع في التخطيط لتحقيق هدف ما إنما يمثل نقطة انطلاق صحية حال توافر الإرادة. فعقد الاجتماعات و تحديد الأهداف و تعيين مواطن القوة و الضعف إنما يعد دليلا علي حسن النية( العربية- العربية) تجاه الحق الفلسطيني. فضلا عن ضرورة إعادة صياغة الأولويات العربية بواقعية حتي لا تكون القضية الفلسطينية هي الضحية في نهاية المطاف, و هو ما لن يتوافر إلا بالتكامل الحقيقي الذي كان حلما فبات سرابا. و ما من شك أن أسطورة اللوبي الصهيوني التي صنعنا منها خيالا للمآتة ثم بتنا نخشاه و كأنه المحرك الرئيسي للمصالح الغربية, ينبغي أن تواجه بلوبي عربي حقيقي مادامت لغة المصالح هي الحاكمة دوليا. فإذا ما أضفنا إليه تثمين مواقف بعض أولاد العم ممن يرفضون قضية الاغتصاب و يرون في دعاوي الميعاد أكذوبة كبري أرضا و اعتقادا, فإن ثمة حراكا ملحوظا يمكن أن يؤتي أكله و لو بعد حين. كما لا ينبغي أن نغفل أن الحوار الحضاري الذي تسربل بالحضارة المسيحية الغربية في التعاطف مع اليهود, يمكن أن تتوازن معه مفردات الحضارة الإسلامية و استيعاباتها المتميزة للأضداد, حيث يحتفظ التاريخ لليهود بكرامة مميزة في هذا الصدد. عسانا لا نفاجأ بحرب غادرة تتسق زمنيا بعدد أحرف معاهدات السلام الألفية, مثلما اتسقت من قبيل المصادفة حروف الوعد السبعة و الستين مع أم المخازي في يونيو.67 ( إشراقات السعدي144): من أسف.. كم من إصدار في عالم القرارات قد خلف عددا من المرارات أو ورث عددا أكبر من العداءات.