أن الجدل الدائر بعنف, الآن, حول طبيعة الدولة المرتقبة, في المرحلة القادمة: مدنية هي أم دينية؟!, إنما هو جدل خاطئ, وتشترك في تحمل تبعاته أطراف عديدة دخل الجدل الحالي المتفجر, حول مستقبل التجربة الديموقراطية في مصر, بعد ثورة25 يناير, مرحلة حساسة, تشي بأن الأمر يندفع إلي اتجاهات خطرة, قد لا تكون مفيدة لبناء دولة متقدمة, قادرة علي حل مشكلات الملايين من أبنائها, وضمان مستقبل مزدهر لمواطنيها!. ولنتفق ابتداء علي نقطتين أساسيتين, بدونهما يصبح الجدل الدائر طحنا للهواء, لا يروي ظمآنا, ولا يطعم جائعا. الأولي: أن كل تصورأو رؤية لا تحقق سعادة البشر, ولا توفر لهم الرضا بمعني إشباع الحاجات الأساسية والأمان بمعني حماية الذات والنفس والملكية المشروعة, لا يعول عليها, ولا يمكن الوثوق باستمرارها, وكم من نظم اجتماعية وسياسية واقتصادية, سادت ثم بادت, لأنها فشلت في تحقيق هاتين الغايتين لأنصارها, علي المستويين المادي والمعنوي. والثانية: أن تحقق هاتين الغايتين مسألة نسبية, بمعني أنه من المستحيل, موضوعيا تحقيق الأمن والرضا الكامل لفرد أو جماعة أو أمة, بنسبة مائة بالمائة, لأن معني هذا حجب الأمن والرضا, بالكامل, عن أفراد أو جماعات أو أمم أخري, بنسبة مائة بالمائة أيضا, وهو أمر غير مقبول, إنسانيا وأخلاقيا, تحت أي ذريعة, فضلا عن أن الوضع العالمي الآن لم يعد يسمح بقبوله, بأي صورة من الصور!. هذا علي المستوي العام, فإذا أنزلنا ذلك إلي الواقع المصري, لرأينا أن الجدل الدائر بعنف, الآن, حول طبيعة الدولة المرتقبة, في المرحلة القادمة: مدنية هي أم دينية؟!, إنما هو جدل خاطئ, وتشترك في تحمل تبعاته أطراف عديدة, يأتي في مقدمتها إناس لم تتسع رؤاهم لإدراك أنهم لا يحيون منفردين علي هذه البقعة من الأرض, وأنه من المستحيل تحقيق رغباتهم الكاملة, هم وحدهم, ودون اعتبار لوجود شركاء آخرين, يحيون معهم في مكان واحد, ولهم نفس الحقوق وعليهم ذات الواجبات!. ذلك أن معني إنكار هذا الحق علي الآخرين, الذين لهم بموجب مرجعيات التاريخ وشروط الجغرافية, ماللجميع من مزايا وتبعات, في ظل ما أصبح العالم أجمع يقره تحت تعريف مفهومالمواطنة, إنما يعني دفع البلاد إلي حواف التهلكة والتحارب الداخلي, الطائفي والاجتماعي, وهو أمر نربأ بمصري حقيقي, لا تحركه إلا مصلحة, الوطن أن يسعي إليه, أو يسمح بوقوعه!. ولا يتورع طرف, في هذا السياق,أن يستخدم سلاح الدين في المعركة ضد خصومه, لأن الذين يستخدمونه يدركون عمق العاطفة الدينية لدي المصريين, ومن هنا يتم وصف المخالفين في الرأي بالكفر والمروق, حتي تحاصر أفكارهم, ويبني سد شاهق بينهم وبين وعي المواطنين!, دون أن تترك الفرصة للناس, حتي يتمكنوا من الفهم والاستيعاب والإدراك والتقرير, بأفضل صورة وأقربها للصواب, بعد أن تكون كل الرؤي وجميع المبررات قد طرحت أمامهم. فالأصل في الوطن أن يكون,محلا للسعادة المشتركة, كما تمني الجد العظيم, رفاعه رافع الطهطاوي, وإذا ما انتقصت حقوق قطاع في هذا الوطن, روحية كانت أم غير روحية, وتهدد أمنه الاجتماعي والسياسي, بل والإنساني, بشكل من الأشكال, عني ذلك أن وطن السعادة المشتركة المأمول, هذا, في خطر حقيقي, لا يفيد أن نقلل منه, ولا أن نخفف من وقعه وتداعياته!. وهذا الوضع المليئ بالهواجس والريب, والشكوك والمخاوف, لا يمكن أن يقيم أعمدة دولة, منهكة ومستهلكة, كدولتنا بعد عقود من النهب والفساد, أو أن ينهض بأعباء شعب, يعاني مر المعاناة علي كل الجبهات, بل المتوقع أن يزيد من معاناته, ويضاعف من أعبائه, ويفاقم من انهياراته. فالدساتير والقوانين والمواثيق والعهود, لن يتحقق لها النفاذ, أو يكتب لها البقاء, مالم تتم عبر سياق مجتمعي صحيح, يتم فيه حوار صحي, ونقاش رشيد وموضوعي, يشرح كل طرف من خلاله هواجسه ويبين مخاوفه, ويوضح مطالبه وحاجاته الأساسية, ثم تتم عملية تفاوض مجتمعيهدفها الوصول إلي مساحات مشتركة, يجري الاتفاق علي تفعيلها, كما يتم التوافق علي تحديد نقاط الخلاف لإعادة درسها, والبحث عن مداخل لتقريب الفوارق فيها. ومن الواجب في هذا السياق, أن يتفهم كل طرف مخاوف الأطراف الأخري, وإلا لن يتم التوصل إلي حل. فعلي سبيل المثال إذا كان هاجس المساس بالمادة الثانية من الدستور يقلق القوي الإسلامية, فلابد من طمأنتهم علي أنه لا نية لدي القوي والاتجاهات الديمقراطية والليبرالية, وكذلك المصريون المسيحيون, لاستهدافها أو تغييرها. لكن في المقابل, علي الاتجاهات الدينية قبول أن يتضمن الدستور مواد فوق دستورية, لا يمكن العبث بها تحت أي ادعاء, تضمن احترام العقائد الأخري, والحريات السياسية والاجتماعية العامة, وحرية الفكر والإبداع... إلخ, إذ أن فكرة التوافق المجتمعي, تضرب في مقتل, حينما يجري إهدار هذه القواعد الأساسية. ومن الخطأ علي الفريق الآخر أن ينجر إلي هذه المساحة المغلقة, التي لا تفيد الوطن, ولا تضيف للناس, ولا تخدم,علي المدي البعيد, حتي الطرف الداعي إليها, إنما الأوفق أن يدور النقاش, أو حتي الصراع, حول قضايا الناس الملحة: أسباب المعاش الضرورية, وحاجات الحياة الأساسية.. ذلك أن التنافس في هذا الأمر, ومهما بلغ, مداه لا يضر أبدا, بل يفيد, فهو تدافع علي خدمة الوطن, وتسابق علي علاج مشكلاته, وإذا ما كان هذا هو منهجنا, فلن يضير الوطن أبدا أن يصل هذا الطرف أو ذاك إلي سدة الحكم, لأن أداته في هذا الوصول, وهدفه من هذا الوصول, هو خدمة الناس, وحل معضلات حياتهم, ومساعدتهم علي التقدم. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.