الأحوال الطبيعية للعالم العربي قبل قيام ثورته الكبري هذا العام هي التي ميزت تلك الثورة. فالعالم العربي منذ مئات السنين يأبي التقدم المطرد في المرات التي يحقق فيها إنجازات كبيرة. والعالم العربي ينسي دروس التاريخ مرات ويستوعبها مرات. وقد كان ذلك من سمات الثورة العربية الكبري أيضا. وإذا كانت الثورة العربية قد قامت طلبا للخبز والكرامة الشخصية والوطنية فإنها لم تمض بثبات علي الطريق في دول تبحث شعوبها عن الخبز والكرامة. ولم تمض الثورة في الطريق علي الرغم من أن عدد الضحايا في سوريا كمثال فاق عدد الضحايا في مصر. وفي الوقت نفسه يمكن القول إن الثورة امتنعت عن الانطلاق في المغرب والجزائر. فما الأمر بالنسبة لاستيعاب درس التاريخ؟ استوعبت تونس ومصر الدرس الكبير في شأن الثورات الشعبية. وهذا الدرس قدمته الثورة الإيرانية عام1979 فالشاه الراحل محمد رضا بهلوي استنفد قوات الشرطة في قتل وإصابة الثوار. ثم دفعه حب البقاء في السلطة إلي إنزال الجيش مزودا بأوامر إطلاق النار علي المتظاهرين. وما أن بدأ سقوط المتظاهرين بأعداد كبيرة حتي امتنع الجنود عن القتل, بل وجهوا نيرانهم إلي كبار الضباط فقتلوهم أو اعتقلوهم. لكن يضاف إلي استيعاب درس التاريخ في تونس ومصر, أو يسبق ذلك, أن الجيشين التونسي والمصري جيشان وطنيان متجانسان, وأن قادتهما أثبتوا إحساسا عاليا بالوطن- أرضا وشعبا. وأثبت الجيش المصري علي نحو خاص إحساسا عاليا بالقيم الحضارية المصرية, وأثبت إحساسا عاليا كذلك بوطنيته هو نفسه إذ ثار علي النظام الملكي ومفاسده عام1952 وأسقط الملك وأنهي المفاسد. وفي ثلاث دول لم يستوعب الحكام درس التاريخ الكبير. لكن ربما تشجع القذافي وهو يدفع جيشه إلي ضرب ثورة ليبيا بحقيقة أن الجيش الليبي له سمتان تساعدانه علي ضرب الشعب بلا وجل أو خجل: الأولي أنه جيش قبائلي بصورة ما, وأن أبناء القذافي وأصهاره هم غالبا قادته, والثانية أنه جيش مؤلف في قسم كبير منه من مرتزقة. ومن الضروري أن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح تشجع بحقيقة التكوين القبائلي لجيشه, وأن قيادات هذا الجيش هم أبناؤه وأبناء أشقائه علي الرغم من أن جزءا من قبيلته قبيلة الأحمر ثار عليه. والجيش السوري هو الأكثر مجافاة للسمة القبائلية لأنه مكون من جنود ينتمون للأغلبية التي تمثل85 في المئة من الشعب, في حين تمثل الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسد أغلبية القادة العسكريين العاملين في قمع الثورة. ولذلك فإن من الطبيعي أن تتواتر الأنباء عن رفض جنود وضباط سوريين إطلاق النار علي المتظاهرين في المدن التي تقبض عليها الثورة وأن ضباطا موالين للأسد يقتلونهم لرفضهم تنفيذ الأوامر. ومن الضروري أن تطورات الأوضاع في ليبيا وسوريا واليمن, وكذلك في البحرين التي دخلتها قوات سعودية وشرطة إماراتية في نطاق قوة درع الجزيرة, كان لها أثر كبير في إحجام الثورة في المغرب والجزائر عن الاندفاع بكامل طاقتها, في انتظار ما ستأتي به الأيام. ومن الضروري أن ثوار دول عربية كثيرة يراقبون ما يحدث عن كثب ويحللونه. بل إن الفلسطينيين في إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة وسوريا والأردن ولبنان يتابعون ويتأملون إلي أن يأتي يوم يرونه موعودا ومشهودا. والحقيقة أنه من أجل أن تسير الثورة العربية إلي الأمام فقط, وليس إلي الأمام مرات وإلي الخلف مرات, يجب علي القادة أن يؤمنوا بحتميتها, وأن يسارعوا إلي إصلاحات كبري تجعلهم يقابلون الثورة في منتصف الطريق في مصالحة تغير وجه العالم.