كل عام وفي ذكري ثورة23 يوليو تتجدد الجدالات الزائفة, وهل كانت تمثل نقلة هائلة لمصر الي الامام.. ام انها هي السبب في كل ما نعانيه من تعثر وإخفاقات. وهل كانت هذه الثورة علاجا او ترياقا لكل ما كانت تعانيه من أزمات وصراعات بين القصر والانجليز ومجموعات كبار الملاك, أم أنها كانت نقطة الانطلاق لوأد الديمقراطية وإقامة نظام الحزب الواحد. ويتصاحب مع هذه الجدالات احاديث ساذجة عن قوة الاقتصاد المصري الذي كان دائنا لبيريطانيا العظمي, وعن أناقة وترف القاهرة كإحدي عواصم العالم المرموقة والاكثر جمالا وبهاء, في تجاهل تام ان ذلك كان يخص فقط مجتمع النصف في المائة وما لحق به من فئات محدودة كانت تقدم خدماتها لهذه الطبقة.. الخ. ومن المعروف طبعا ان هذه الجدالات ليست بحثا في التاريخ, وليست اعادة لتقييم مراحل سابقة بغرض رصد الانجازات وتحديد الاخفاقات, واستخلاص الدروس المستفادة من أجل البناء و التقدم وعلاج مواطن الخلل.. بل إن الحقيقة الواضحة ان هناك اهدافا سياسية لتشوية نموذج دولة يوليو( بكل ما له وما عليه) في الوعي المصري خاصة لدي الاجيال الشابة, لصالح الشرائح التي تدعو باستماتة لنهج متطرف من النيو ليبرالية المتوحشة التي لا تعالج مشاكل مصر وشعبها, بل تؤدي الي مراكمة الثروات لدي مجموعات محدودة, تسعي بدورها بعد ان تمتلئ جيوبها الي زيادة نفوذها السياسي واستصدار ما تشاء من قوانين, واعادة هندسة المجتمع علي قياس مصالحها ونهمها الذي لا يشبع.. وتكون النتيجة ما نشاهده الآن من فجوات فلكية بين الشرائح الاجتماعية, وانقسام المجمتع المصري إلي( مجتمعات منفصلة) تعيش وتتحرك بشكل متواز, طبقا لمستوي الدخل ونوعية التعليم ومستوي الرعاية الصحية.. الامر الذي يؤدي بدوره الي تشوهات واعطاب هيكلية يصعب علاجها, فيتم اللجوء الي المسكنات والترقيع مما نشاهده في الوقت الحالي وان كان قد بدأ منذ عقود. كان التحرك في23 يوليو1952 يسمي الحركة المباركة للجيش وبعد فترة انتقالية محدودة تحول النظام الجديد الي ثورة متكاملة الاركان ألغت الملكية والالقاب وقامت بإنجازات اجتماعية غير مسبوقة لصالح الاغلبية العظمي من المصريين, وأنجزت تطورات مذهلة في مجالي الصحة والتعليم, واطلقت ثورة هائلة في التصنيع واتبعت سياسة خارجية قائدة ورائدة اثرت في محيطها كله وعلي مستوي التوازنات والصراعات المتصلة بالتوازن الدولي في مجمله.. إن ما يعرف اصطلاحا بدولة يوليو ينطبق فقط علي الفترة الممتدة من23 يوليو1952 إلي وفاة الرعيم الراحل القائد جمال عبدالناصر في سبتمبر1970, شاملا الاعداد الفعلي والحقيقي للنصر المجيد في اكتوبر..1973 اما في المرحلة التي تلت ذلك, فإن مجمل السياسات الاجتماعية والاقتصادية وتوجهات السياسة الخارجية انقلبت رأسا علي عقب, ومعها كل منظومة القيم التي كانت تراهن علي العلم والعمل وعلي الكفاءة والانجاز, دون رؤية متكاملة ولا وعي بأثر التداعيات التي نشاهد آثارها تتوغل الآن, بحيث تبدو مصر الفتية والقادرة علي التجدد دوما, وكأنها قد أصيبت بالشيخوخة وفقدان البوصلة.