لا أراكم قد فهمتم أن اللحظات والبدايات تصنع تاريخ الامم والحضارات بالطبع أنا لا أقصد التوثيق رغم أهميته القصوي لدراسي المادة لكن التفريق بين حصار ساعة وعملية مقاومة لاحتلال مكان وقد تشكل في التو فريق مامن الشجعان.. لم يتحسب أي منهم لفكرة دور البطولة ولا حسب أنه سيكون له ذكر في التالي من الأيام وذلك الذي يكون مخططا بدقة ومصنوعا تحت غطاء الصدفة بالمقلوب وتلك جوانب غير مروية ستكون المحور لقصص كثيرة.. ذلك الذي كان تاريخا شفهيا لا أحداث مسجلة بوقائع وصور وجرائد, شهود عيان اللحظة, يرونها.. وقد يكون الواحد منهم قد قصد دون تحديد, مجرد مرويات شعبية.. أو أغنية للتجاوب اليومي مع الواقع المعاش الذي هو فيه لكن ذلك في يد الروائي صاحب البصيرة لهو إعادة صياغة اجتماعية لأحداث التاريخ وأثرها علي الناس وتحولاتهم, الروائي هنا لا يأخذ الجانب الصلد المدبب للتاريخ كمادة علمية موثقة, ذلك لأنه بطبيعة الحال ذو خيال نافر وعميق ومنظم في ذات اللحظة, الفارق بينه وبين فلاسفة تلك المادة الخطيرة, عظيمة التأثير علي حياة البشر, شيء جوهري, اجتهد الدكتور العلامة السيد فليفل علي مدي أعوام دراستنا لفلسفة التاريخ في تبيانه لنا وهو أن كل مروية ليس عليها دليل دامغ علي حدوثها سواء عقليا أو نقليا ليس مكانها البحث العلمي الموثق, بل الروايات بأشكالها المختلفة.. نحن قد لانرفضها بشكل قاطع ومؤكد وإلا اسهمنا في أحداث الفوضي للجملة وقبل الانتهاء منها, فما هو مقياس الحراك الاجتماعي والسياسي وكيف يعبر عنها إذا لم توجد في ذات التوقيت تماما أو بعدها لقصص وسرد آدب وفنون دالة عليها, قصة بسيطة لاتستبعد التفاصيل ولا التجربة ولا الخوف المصاحب والعفوية التي حدثت.. لاتستبعد المشاعر والأحاسيس والأوهام.. وأباطيل الانحياز والإنسانيات.. الغاضبة والحانقة والانتقام وهذا هو الأدب المعبر بحق عن فترة ذات تأثير هام وفاعل عاشتها مصر بعد حرب عام1973 وعرفت باسم الانفتاح علي الغرب والثروة النفطية الآتية من صحراء بلاد العرب والتي احدثت تلك الفجوات في كينونة المجتمع المصري منذ السبعينيات وحتي الآن وحولته من مجتمع منتج وفاعل في الأمة العربية والمنطقة الإفريقية إلي مجتمع مستهلك ومستورد حتي للافكار الغربية والمتخلفة بل وحتي العفن في التطرف نحو اليمين أو اليسار, هنا يضع الأديب إبراهيم السيد طه أصابعه علي نقطة البداية التي احدثت التغيرات في المجتمع المصري المعاصر والتي أوصلت الأمور إلي ذلك المنعطف الخطير اقتصاديا وسياسيا في بدايات سنوات القرن الحادي والعشرين, يجنح الكاتب إبراهيم إلي سرد الوقائع والأحداث كما هي.. عاصرها فاعتصرها في ذاكرته المرتبة والموثقة فأوجد لها المنطق والمشاركة التي يسعي القارئ لها لحل ذلك اللغز الذي ضرب جذور المجتمع المصري الذي كان حتي نهاية الثمانينيات يأكد من زرع أرضه وعمل يده تقع رواية( رياح الخليج) الصادرة عن الدار المصرية السعودية في215 صفحة من القطع الكبير فهي رواية عظيمة الحجم بحق حافلة بالأحداث والأشخاص والإيماءات والروابط التي تجعل القارئ يربطها بشخصيات عامة في الحياة وذكاء الكاتب إبراهيم طه في أنه مس الأمور دون أن يحددهم تاركا للقارئ الحصيف أن يهتدي إليهم بنفسه من حسن ابن العمدة عامر إلي الراقصة والممثلة زينب التي تحولت لنجمة في المجتمع وأداة من أدوات الانتقام, عمل المؤلف العليم بسلوك ابطاله ومصائرهم في بلورته مكان العمل( السليمانية) ليصب في مصر والخليج معا فيكون الحاضر الغائب الناضج والناصح من خلال القصة الاجتماعية ذات الأبعاد الفلسفية والتاريخية.. هل كانت هجرة المصريين طوال عقود لبلاد النفط هجرة فقر واحتياج للمادة أو هجرة من ألجأهم تداعيات الحرب وعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي الذي نقض غزل المجتمع المنتج لصالح سياسات المجتمع المستهلك وما صاحب ذلك من إصرار علي قتل كل روح قوية جميلة قادرة علي الارتقاء بالأمة المصرية وسيادتها علي ماحولها, أنه الخطر الذي دق الكثيرون ناقوسة من أول مقالات الكتاب الصحفيين الكبار أمثال أحمد بهاء الدين وإحسان عبدالقدوس وصولا إلي محمد ناجي وفؤاد قنديل وجبريل ومسعد عليوة وإبراهيم طه وكلهم ناقشوا تلك الخلخلة التي نتجت عن القهر والفقر وطلب الرزق والفوضي الخلاقة التي برزت أوراقها بعد وقت طويل من الزرع والكمون وتفريغ الوطن المصري من الكفاءات وكان لابد للجيل الذي نتج عن غرس ثورة يوليو1952 وعبدالناصر ألا يستفاد منه في وطنه الأم أو الأمة العربية ولذلك كان هناك العديد من الوسائل التي اتبعها الغرب.. نظير المال؟! اجاد الكاتب إبراهيم طه مناقشة أكثر مشكلات هذا الجيل متخذا الحوار الحي البناء تارة والسرد تارة في أحداث فنية شديدة التنظيم يقودها ببراعة وسيطرة حتي أعطت الرواية ثقلا في تلك المفاوضة التي تحدث بينه وبين متلقي روايته( رياح الخليج) وفي هذا السياق يمكن أن تسمع وتشم وتري خرائط جغرافية ووثائق مع تلك الشخصيات التي علي الورق وهو ماندعوه في النقد( شخصيات حية تقوم من الورق الذي أمامك بدور تراه وتلمسه بإحساسك). وقبل العودة للسالمية, بدأ العمدة يفكر في تزويج زينب, كان ذلك أمرا يسيرا وصعبا في آن واحد؟! فوجئ جمهور الصالة بزيزي تتوقف عن الرقص, في فرحة ودهشة عظيمتين بدأت تحملق في حسن..؟! هل غضبت..؟! لاتتعجل فإن الروائي قد جهز أكثر من مفاجأة لإجهاض ماتحس به من مشاعر متعارضة ومتناقضة, إبراهيم السيد طه قد أعاد تشكيل معرفتنا والفترة التي مر بها ومررنا معه نحن أيضا, لكنه كان يختزن ذلك التاريخ الشفهي وماتشابه منه وما اغترب للحظة إبداع في نطاق محدد برواية تختلط فيها قدراته وطريقته بين القصة المصورة والفيلم التسجيلي ومتعة مشاهدة المسرح والسرحان في الخيال وإجابة الأسئلة بالكيفية.. التي أرادها..؟! صعد الروائي إبراهيم السيد طه في هذه الرواية( رياح الخليج) إلي قمة العمل القصصي الاجتماعي وهو الخط الذي برع فيه من قبل في روايته أحلام أسيرة ومن تسكن القصر.. فهو يؤرقه سؤال فلسفي يطرحه بدوره علي القارئ المصري والعربي, هل تري ما أنت فيه الآن..؟! لو عاد بك الزمن فعن أي جزء كنت ستتخلي؟!