احتلال أجنبي.. فوضي سياسية.. اقتصاد تحت الصفر.. أغلب المدن مهدمة بلا مرافق أو خدمات.. الشعب يكاد يموت جوعا لولا طائرات الإغاثة تلقي بالمؤن من الجو.. هكذا خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الثانية قبل أكثر من نصف قرن.. أما الآن فألمانيا هي أقوي دولة اقتصاديا وعلميا في أوروبا وهي أكثر دول العالم تصديرا قبل الولاياتالمتحدة والصين.. صور الخراب والدمارلم يعد لها وجود لدرجة الظن أنها لم تكن.. كيف حدث هذا التغيير وكيف تم في هذا الوقت القصير؟ الاجابة علي هذا السؤال لا يمكن أن يحتويها مقال قصير بل تحتاج الكثير من الأبحاث والدراسات لتحليل كل التفاصيل والجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة بهذه المعجزة. ولكن ما سنتوقف عنده هو حدث يبدو مدهشا للكثيرين ولكن بالتدقيق فيه قد يكون هو أهم المفاتيح التي لم تؤد فقط إلي أن تقف ألمانيا علي قدمها مرة أخري بل إلي وضعها في مقدمة دول العالم المتقدم. هذا الحدث هو تأسيس أكبر مؤسسات البحث العلمي في المانيا قبل اعلان دستور ألمانيا الجديد وقبل إعلان تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية بعام كامل!!.. نعم هذا ما حدث فعلا.. ففي فبراير1948, وفي أبريل1948, وفي مارس1949 تم تأسيس المؤسسات البحثية ماكس بلانك, وفراونهوفر, وليبنتس علي التوالي بينما تم إعلان الدستور الألماني وإعلان تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية في23 مايو1949.. لقد وضع الألمان البحث العلمي في مقدمة مشروعات التنمية والتي بدأت فورا بعد نهاية الحرب في خضم الجوع والدمار وعملوا علي توفير مصادر التمويل بشكل عاجل.. دلالة هذا الحدث تكمن في أن النخبة السياسية في ألمانيا في هذا الوقت لم تر أن البحث العلمي هو رفاهية خاصة بالدول الغنية بل تؤمن بأن البحث العلمي ليس فقط السبيل الوحيد للنهوض والارتقاء بل هو وسيلة فعالة للخروج من الأزمات وحل جميع المشاكل التي يعاني منها المجتمع ككل. هكذا كان الوضع السياسي والاقتصادي وهكذا كانت رؤية الساسة الألمان منذ خمسين عاما فماذا عن الوضع الآن وما هي الرؤية؟ الاجابة هذا السؤال جاءت من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي وقفت في الربع الأول من عام2010 تتحدث عن المشاكل الاقتصادية التي يواجهها الاتحاد الأوروبي وأنهت خطابها قائلة: نحن في أزمة حقيقية, والسبيل الوحيد للتغلب علي هذه الأزمة يكمن في رفع جودة تأهيل الخريجين, ودعم البحث العلمي. ولم تتوقف المستشارة الألمانية عند هذا الحد, بل أكملت: وشعور منا بالمسئولية فقد تقدمنا بمشروع لرفع الدعم للبحث العلمي بقيمة12 مليار يورو إضافية حتي عام2014. والمفاجأة أن النتيجة جاءت بأسرع مما توقع الكثير, فبنهاية عام2010 حققت التجارة الخارجية الألمانية أكبر معدل نمو خلال عشر سنوات حيث زادت الصادرات30% مقارنة بالعام السابق ووصلت نسبة المنتجات الصناعية والزراعية والخدمات التي تعتمد علي البحث العلمي إلي45%, وهي أعلي نسبة علي المستوي الدولي.. تلك الانجازات تدفع ألمانيا بعيدا خارج نطاق الأزمة الاقتصادية العالمية وتثبت بشكل ملموس ثمرة التحالف بين العلم والاقتصاد حسب قول وزيرة التعليم والبحث العلمي الدكتورة أنيتا شفان في مقدمة تقرير البحث والإبداع لعام2010. إن ألمانيا الآن هي الدولة الأولي في أوروبا في مجال البحث العلمي وضمن الثلاث الأوائل علي مستوي العالم. فطبقا للتقرير الحكومي الألماني للبحث والإبداع لعام2010 تحتل ألمانيا المركز الأول علي مستوي أوروبا والمركز الثالث في قائمة الدول التي تقدم أبحاثا جديدة منشورة في مجلات علمية مرموقة بعد الولاياتالمتحدةواليابان, وحسب عدد الأبحاث تحتل ألمانيا الصدارة العالمية في ثلاثة حقول وهي: تقنية النانو, وتكنولوجيا البصريات, والتكنولوجيا الحيوية. وفيما يتعلق ببراءات الاختراع فتحتل ألمانيا المركز الثاني عالميا بعد الولاياتالمتحدة وقبل اليابان التي تأتي في المركز الثالث. ولنا في قصة النجاح هذه عدة وقفات. أولاها: الإيمان بأهمية البحث العلمي في وقت الأزمة وأن الانفاق علي البحث العلمي هو استثمار آمن سوف يعود ناتجه علي المجتمع في عدة أشكال مثل تنمية الموارد البشرية وتحفيز تطوير التعليم ومثل دفع الانتاج والاقتصاد بأفكار وتطبيقات جديدة.. وثانيها: هو الاهتمام بجميع أفرع البحث العلمي, فلقد قسمت ألمانيا مؤسسات أبحاثها الكبري من أول يوم طبقا لأنواع الأبحاث دون التقليل من شأن أحدها ودون الزعم بالحاجة للأبحاث التطبيقية دون الأساسية, فمؤسسة هلمهولتس التي تأسست عام1958 وتعتبر العملاق بين مراكز الأبحاث الألمانية وتختص بالمشاريع المستقبلية التي تستغرق في العادة فترة طويلة, وتمتد من الصحة إلي أبحاث الفضاء. أما مؤسسة ماكس بلانك والتي تأسست في عام1948 فتختص بالأبحاث الأساسية في مجالات الفيزياء والبيولوجيا والكيمياء وقد حصل17 من علمائها علي جائزة نوبل. وتعتبر مؤسسة فراونهوفر التي أسست عام1949 من أكبر المؤسسات البحثية في المجال التطبيقي علي مستوي أوروبا وتعمل بشكل مباشر مع المؤسسات الصناعية ولذلك تتكون معظم ميزانياتها من خلال توقيع عقود بحثية مع الصناعة ومؤسسات الخدمة. ومؤسسة ليبنتس التي تم تأسيسها في عام1949 تختص بالابحاث التي تتجاوز حدود المحلية وتهم اقتصاد الدولة. وثالثها: هو أن نجاح هذه المؤسسات البحثية يرجع إلي كونها هيئات مستقلة في التمويل والإدارة وإلي قدرتها علي جذب واستقطاب أفضل العلماء من مختلف أنحاء العالم. وقد دعمت الدولة هذه النقطة بوضع قوانين خاصة بالهجرة والتأشيرة لتسهيل استقدام العلماء دون غيرهم والعمل في هذه المؤسسات البحثية. وقد وصل عدد العلماء الأجانب في ألمانيا إلي25 ألفا, هذا بالإضافة إلي230 ألف عالم أجنبي خارج ألمانيا يتلقون الدعم من مؤسسات ألمانية. ورابعها: هو أن المجتمع الألماني مجتمع علمي فهناك اهتمام كبير بأخبار الاختراعات والتقنيات الحديثة وهناك أيضا العديد من البرامج والقنوات التليفزيونية المتخصصة في عرض الأبحاث الجديدة والاختراعات بالإضافة للكثير من المتاحف التي تهتم بمجالات العلوم المختلفة. وخامسها: هو التمويل ودور المجتمع المدني والصناعة حيث يتولي تمويل البحث العلمي في ألمانيا ثلاث جهات رئيسية هي الشركات والدولة والمجتمع المدني( الأوقاف). حيث تتولي الشركات الصناعية والمجتمع المدني ثلثي نفقات الأبحاث والتطوير وتقدم الدولة الثلث الباقي.. وهو ما قد يكون مدهشا للقارئ العربي الذي اعتاد علي كيانات بحثية ممولة من الدولة ولم ير إلا صناعة محلية لاتعتمد علي الابتكار بل علي الاستيراد والتوكيلات.. لقد بلغ إجمالي الإنفاق علي البحث العلمي65 مليار يورو في عام2008 أنفقت الدولة منها حوالي23 مليار يورو وأنفقت الشركات الألمانية حوالي439 مليار يورو, فعلي سبيل المثال رصدت شركة بوش موازنة للبحث العلمي خلال العام الحالي بقيمة3.9 مليار يورو, وتساهم مؤسسات المجتمع المدني في دعم العلوم بإجمالي ميزانية تقدر بملياري يورو. وسادسها: ربط البحث العلمي بالتعليم الجامعي حيث كان اتحاد البحث العلمي مع التعليم العالي أحد مبادئ حركة إصلاح الجامعات في ألمانيا والتي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر.. ولتشجيع البحث العلمي داخل الجامعات طرحت الحكومة الألمانية في2006 مبادرة التميز والتي بموجبها تقوم هيئة مستقلة عالمية باختيار أفضل الجامعات المتميزة في مجال البحث العلمي بناء علي الواقع وبناء علي خطة مستقبلية للبحث العلمي في الجامعة, وتتلقي الجامعة الفائزة دعما إضافيا من صندوق خاص أنشئ خصيصا لهذا الغرض بقيمة1,9 مليار يورو سنويا. وسابعها: اللامركزية والتمايز حيث يتولي مهمة البحث العلمي في ألمانيا ثلاث جهات: هي الجامعات, المعاهد العليا, المؤسسات والمراكز البحثية, ومراكز البحث العلمي في الشركات. تمتلك ألمانيا370 مؤسسة تعليمية, منها140 جامعة ومعهدا عاليا, و230 معهدا متخصصا. وتمتلك كذلك250 مؤسسة بحثية هذا غير الكثير من مراكز الأبحاث في الشركات الصناعية. الفريد في ألمانيا هو أنك لا تجد جامعة أو مركزا بحثيا به جميع التخصصات. فكل جامعة مثلا لها ما يميزها عن غيرها, فمثلا جامعة ميونخ تتميز بالعلوم التقنية وجامعة بيليفلد تتميز بالأبحاث الجينية. إن منظومة البحث العلمي في ألمانيا تستحق بالتأكيد المزيد من الدراسة وهو ما سنحاول تناوله كلما كان ذلك متاحا في مقالات لاحقة وهذا يرجع لعدة أسباب: أولها كفاءة هذه المنظومة القادرة علي ربط البحث العلمي بالصناعة وربط الباحثين الألمان بنظرائهم الأجانب وثانيها الاهتمام بالعلوم الأساسية ووضعها ضمن خطة ذات أهداف قصيرة وطويلة الأجل وثالثها المزج بين التعليم الجامعي والبحث العلمي في الجامعات وتحميل مسئولية تخريج الكوادر الصناعية للمعاهد العليا والشركات الصناعية نفسها وعدم الزج بالجامعات في هذا الشأن, ورابعها الدور الايجابي للصناعة ومؤسسات المجتمع المدني في تمويل البحث العلمي, وآخرها هو نجاح التعليم الجامعي في تحقيق أهدافه رغم كون أغلب الجامعات في ألمانيا جامعات حكومية وهو ما لايوجد مثله في كثير من الدول الأوروبية والولاياتالمتحدة. وفي النهاية يمكننا أن نؤكد أن القول السائد بأن لدينا مشاكل عديدة لها الأولوية وأن البحث العلمي يمكن تأجيله لمرحلة لاحقة, هو قول خاطئ بدليل تلك التجرية الألمانية قبل خمسين عاما وحتي أثناء الأزمة الاقتصادية الحالية, وبدليل نجاح دول أخري صارت علي نفس الدرب مثل كوريا الجنوبية والبرازيل وفنلندا والهند. إن البحث العلمي من خلال الاكتشافات والاختراعات يشكل حياتنا ويفتح المجال لوظائف جديدة ويوفر الطرق المبتكرة للحصول علي حاجاتنا من المياه والغذاء والدواء والطاقة وهو الشيء الوحيد في ظل مواردنا الطبيعية المحدودة الذي يمكن أن يدفع اقتصادنا للمضي قدما. ونكرر أن العلم والعلماء والباحثين هم قاطرة التطور والنمو في المجتمع, ولا يمكن لهذه القاطرة أن تتحرك بدون الارادة والرؤية المجتمعية والسياسية.. فهل آن الأوان أن نبدأ؟