ظهرت معالم الربيع علي الولاياتالمتحدةالأمريكية, التي طالما كانت وراء أنواء الربيع التي اجتاحت العالم, وآخرها الربيع العربي, الذي ما يزال يدمي المنطقة بالحروب والفتن. وتشهد الولاياتالمتحدة حالة من الانقسام والفوضي غير المسبوقة, فالمظاهرات عمت أمريكا ضد رئيس منتخب قبل توليه مقاليد الحكم لأول مرة, وحفل التنصيب يغيب عنه كثير من المسئولين الأمريكيين, ونواب من الكونجرس, بينما حشود الغاضبين والمحتجين علي تولي ترامب الحكم يطوقون مبني الكابيتول, وتنظيم مظاهرات حاشدة في أول أيام حكم ترامب, تتهمه بمعاداة المرأة والمهاجرين. كان الصدام غير المسبوق قد بدأ أثناء الحملة الانتخابية, بعد أن تبين أن ترامب خصم عنيد من خارج المؤسسات الأمريكية الحاكمة, ووجد معارضة لانتخابه حتي من داخل الحزب الجمهوري الذي خاض الانتخابات باسمه, لأن كل التوقعات لم تذكر اسم دونالد ترامب في الانتخابات التمهيدية لتحديد مرشح الحزب الجمهوري, حتي إن بعض قيادات الحزب جاهرت بدعمها هيلاري كلينتون منافسة ترامب, ولأول مرة رأينا الانتخابات الأمريكية تمتلئ بكل هذا القدر من الاتهامات, التي بلغت حد الشتائم, من الاتهامات المتبادلة بالتلاعب في الانتخابات, إلي استخدام العلاقات النسائية كسلاح للتشهير, وانتهاء بالتشكيك في نزاهة الانتخابات, وأن روسيا تدخلت لإنجاح ترامب. يختلف الربيع الأمريكي وثورته الملونة عن فصول الربيع التي شهدتها أوروبا الشرقية والمنطقة العربية, فقد كانت الولاياتالمتحدة هي المخطط والمشرف علي تنفيذ فصول الربيع في العالم, باستخدام المخابرات والإعلام ومجموعات المصالح والمتدربين علي أصول الثورات الملونة, التي تقود الجماهير في عكس اتجاه مصالح الجماهير, لتحقيق أهداف ومصالح الولاياتالمتحدة, والتبشير بديمقراطية ورخاء في الدول المعادية أو التي لا تدور في الفلك الأمريكي بالقدر الكافي, والنتيجة تكون عمليات فوضي وانهيار اقتصادي, يليه بيع الشركات المملوكة للدولة للمستثمرين الأجانب بأثمان بخسة, لتكريس الهيمنة الأمريكية علي قرارات وتوجهات هذه الدول, وإلا تم تغذية الفوضي في داخلها. ما فاجأ المؤسسات الأمريكية المهيمنة هي الجماهير التي انتخبت ترامب, برغم كل الدعم الذي تلقته منافسته هيلاري كلينتون, ويصعد ترامب علي منصة التتويج, ويعلن أنه يريد نقل السلطة إلي الشعب الأمريكي, بينما تطرح شبكة تلفزيون سي إن إن الشهيرة تساؤلات حول مصير أمريكا بعد اغتيال ترامب وفريقه, وتناقش سيناريوهات نقل السلطة, وهو تساؤل لم يسبق طرحه عقب أي انتخابات رئاسية في أمريكا, وكأن اغتيال ترامب مطروح. لا يمكن استبعاد سيناريو الاغتيال الذي طرحته سي إن إن, لكنه سيزيد المشهد نعقيدا, فالاغتيال سيكون له عواقب وخيمة, تزيد من عمق الشرخ في البنيان الأمريكي المتصدع, لكن أقرب السيناريوهات هي محاولة احتواء جنوح ترامب وسياساته التي تناهض جزءا مهما من صناع القرار في أمريكا, ودفعه إلي استكمال السياسات التي كانت تنفذها إدارة الرئيس السابق أوباما. كثير مما طرحه ترامب في معركته الانتخابية غير قابل للتحقيق, فالولاياتالمتحدة غير مهيأة في ظل أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية علي مناطحة الصين اقتصاديا, لأن الصين لديها فوائض مالية ضخمة, واشترت كمية ضخمة من أذون الخزانة والأصول الأمريكية والأوروبية, ويمكنها أن تتحمل أي حرب اقتصادية, بعكس أمريكا التي لا يمكن أن تتحمل المزيد من الأعباء والمتاعب. كما لا يمكن لترامب أن يلغي الاتفاق النووي مع إيران, ليس لأن الاتفاق جماعي وأيدته الأممالمتحدة فقط, بل لأنه سيمنح إيران الفرصة للمضي في برنامجها النووي بسرعة أكبر وعقوبات أقل. أما نقل السفارة الأمريكية إلي القدس فإنه لن يحقق إلا المزيد من الغضب تجاه أمريكا وإسرائيل. لن يحل ترامب الأزمات الأمريكية, ولا يملك تصورا لتجاوز الأزمات, لكن صعود ترامب هو تجسيد لأزمة الرأسمالية الأمريكية, وتعبير عن ضخامة وعمق تلك الأزمة, التي تنتظر لحظة التفجير.