مضت مؤامرة التوريث إلي غير رجعة, تلك المؤامرة التي كان شأنها تقزيم مصر وتقليص دورها في المنطقة والعالم والتقليل من شأنها وسط الدول. كلما كانت المؤامرة تقترب من الاكتمال كانت تنتابني غصة في حلقي لم يعد من المعقول ان تكون مصر في القرن الحادي والعشرين لعبة في أيدي فئة من المتآمرين يرسمون مستقبلها كما شاءوا لتحقيق مصالح شخصية ضيقه جدا لا تتناسب مع حجم وثقل هذا البلد العريق؟! لا يمكن أن نتخيل مصير مصر مرهونا بإرادة مجموعة محدودة من المماليك الذين اعتادوا التآمر علي بعضهم البعض وثابت من التاريخ أنهم جميعا خان قسمة سلطانه وقتله وركب مكانه!! التوريث كان أمرا مرفوضا من الأغلبية الصامته, بل كان كابوسيا يطارد المصريين في أحلامهم, كان حملا ثقيلا أيضا في صحوتهم. ولم يكن مقبولا أن تستبدل صورة الأب الذي حكم البلاد30 عاما بصورة الابن لعدد آخر من السنين وما كان يدفع إلي الخوف والقلق الشديد من مستقبل ما بعد الابن عدم وجود حفيد جاهز للتوريث بما يعني تصور مستقبل مظلم حافل بالصراعات بين المماليك الجدد يدخل بمصر في نفق طويل من الفوضي الشاملة التي كفانا الله إياها بفشل مخطط التوريث الجهنمي. غير أن بعض التآمل في واقعنا الحالي يكشف أن فيروس التوريث يجري في دماء المصريين من القاعدة إلي القمة ولم يكن حكرا علي آل مبارك. فكلنا يذكر جيدا النفوذ الذي كان يتمتع به ابن مدرسة الفصل بين اقرانه فهو الاول دائما في ترتيب الفصل مهما تواضع مستواه الدراسي, وهو الوحيد المفوض بحكم الفصل في غياب والدته. كان هذا ولا يزال شكلا من اشكال التوريث الذي يكتسب شرعية تطبيقية لا يعترض عليها أحد رغم خطورة دلالتها. فالطفل الذي يجد نفسه مفضلا ومتفوقا ومتصدرا الصورة في المسابقات المدرسية الرياضية, والدراسية لا لشيء إلا لكونه ابن( المدرسة), يعطي لنفسه بعد ذلك الحق في أشياء كثيرة لا تحق له بالفعل لأسباب مشابهة, والسكوت من جانب المجتمع علي ذلك هو الذي يغري آخرين بالاستحواذ علي ما ليس هم لنفس الأسباب. التوريث في مصر سلوك آلي, ضابط الشرطة والفنان والصحفي ورجل الأعمال والميكانيكي والسمكري والتاجر لا يرون أولادهم إلا ضباطا أو فنانين أوصحفيين أو رجال أعمال أو سمكرية وميكانيكية وتجارا. إن يوم القيامة الذي حدث في ميدان التحرير يوم25 يناير هو مجرد بروفة مصغرة لما وصلت اليه أحوالنا من تطبيق التوريث بهذه الصورة المذهلة في كل المجالات حيث تفاقمت ظاهرة التوريث ووسد الأمر لغير أهله, والرسول الكريم حذرنا من ذلك في حديثه الشريف بقوله صلي الله عليه وسلم إذا وسد الأمر لغير أهله.. فانتظروا الساعة صدق رسول الله. ليس هناك قانون يمنع ابن الطبيب من ان يكون طبيبا إذا كان كفؤا لهذه المهنة, ولا يمنع المذيع من ان يكون مذيعا إذا توافر له الحضور علي الشاشة والقبول من المشاهدين والثقافة التي تؤهلة للظهور علي شاشات الفضائيات, ولا ابن الفنان من ان يكون ممثلا قديرا إذا ملك موهبة التمثيل, اما أن تكون كل مؤهلاته انه ابن طبيب او ضابط او مذيع او فنان فهذا هو المرفوض. والتوريث يخلق حالة خطيرة من الإحباط للجميع تؤدي إلي عدم الانتماء للمجتمع والسعي للبحث عن فرص أخري خارجه, وقد تدفع في أحوال أخري للعمالة والخيانة والعمل لحساب الغير ضد مصلحة الوطن الذي ضاعت فيه الحقوق وغاب فيه مبدأ تكافؤ الفرص لحساب ورثة آبائهم في كل المجالات العلمية والثقافية والفنية والسياسية والإدارية دون حساب للصالح العام. أما التوريث علي مستوي الحكم فلا ينتج عنه هزات صغيرة وانما زلزال عنيف يحدث شرخا هائلا في المجتمع مثل ذلك الزلزال الذي حدث في25 يناير, وصدع كبير يقسم البلاد إلي عدد غير محدود من الكيانات المتفرقة. نحن في امس الحاجة إلي إعلاء مبدأ تكافؤ الفرص وتقديم الاكفأ والأحق والأجدر لتقلد المناصب الإدارية العليا والوظائف الصغري علي حد سواء. نحتاج إلي وضع المعايير الصحيحة للحراك الاجتماعي والتوظيف حتي لا نفقد المزيد من الموهوبين والمثقفين والمتعلمين والوطنيين لصالح المجتمعات المنافسة, حتي يتوقف نزيف العقول والكفاءات والمخلصين الذين يؤثرون البحث عن فرص حقيقية محترمة في مجتمعات تقدر العلم والموهبة والإخلاص. وإذا كنا جميعا نرفض توريث الحكم لابن الرئيس مهما كانت موهبته وامكاناته, ومهما تدرب علي الإدارة والرئاسة لمجرد انه ابن الرئيس حتي لا تتحول الجمهورية إلي ملكية وراثية فاسدة, فعلينا ايضا ان نرفض توريث المهن للابناء إلا إذا كانوا جديرين بوراثتها. هل يجرؤ احد أيا كان علي إلغاء قانون( تعيين أبناء العاملين) المعمول به في كل الوزارات والهيئات والمؤسسات العامة؟ الفرصة أصبحت مواتية تماما لإلغاء هذا المبدأ, وفتح جميع المجالات للمستحقين فقط دون وضع اولوية( غير دستورية) لأبناء العاملين خاصة إذا كان هؤلاء الأبناء غير مستحقين ولا مؤهلين لهذه الفرص مهما تضاءلت الوظائف, لأن المبدأ لا يتغير بتغير الوظيفة.. هذا إذا اردنا لبلدنا ان يتقدم ولمجتمعنا ان يتطهر ولصورتنا ان تكون شفافة نظيفة ومحترمة. التوريث مرفوض بكل اشكاله ومستوياته ولا استثناء لا أحد صغيرا ام كبيرا, وحتي لا نعود للمربع رقم واحد في السنوات المقبلة, يجب مراجعة انفسنا والبدء بإلغاء مبدأ الأولوية لأبناء العاملين حتي لا نحتاج إلي ثورة أخري ضد وريث جديد.