مع آخر رشفة من أعماق فنجان القهوة تستكين الكآبة وتهدأ.. فالقهوة لا تكون إلا من يدعم فرحات الذي قارب الخمسين إلا قليلا.. متزوج لم يرزقه الله بالأبناء رفض الزواج من أخري.. راض بما قسمه الله له.. صرخ في وجه أمه التي طالبته بالزواج لرغبتها في رؤية أبناء له قبل أن تموت.. قائلا: ماذا لو كان العقم أصابني.. أكانت زوجتي تتزوج من آخر.؟!!, وأقنع والدته وإخوته بعدم طرح فكرة الزواج من أخري ثانية.. الوظيفة الوحيدة التي كانت خالية حين تقدم للعمل في المصلحة منذ سنوات ساع.. لم يتمرد وقبل بها علي الفور وطوي شهادته المتوسطة.. كان طيبا وخلوقا.. يقرأ الصحف التي فرغ الموظفون من قراءتها.. قال يوما: لها تظن أن الزمن بهذه الرأفة يتركك تجمع بين كل أحلامك.. الحياة لاتعطينا كل مانريد.. الحكمة تخرج من فمه.. كما تخرج القهوة من يده طيبة ومنعشة.. أحبه الجميع لصدقه وأمانته وعدم التدخل في شئون الآخرين هضيم الوجه مثلثه.. يتمتع بذلك اللون الأسمر الأشبه بطمي النيل واسع العينين شاردهما.. زحف البياض بشعره فأكسبه مسحة من وقار.. يردد دائما: أنه لا شيء يوازي كنز ذكرياته المشتركة مع زوجته وتلك الساعات العسيرة والطيبة التي تقاسماها معا.. ذات يوم تلقي مكالمة تليفونية.. ليسقط بعدها علي المقعد دون أن يقوي علي القيام والحركة.. ماتت زوجته وانطفأت الشمس وغربت وهي في عنفوان وهجها.. ولأن الحياة هي مملكة الصدق من حب وكراهية وزواج وموت.. كان لابد أن تبدأ قصص جديدة.. بعد أن مزقته الوحدة ونهشت قلبه تزوج من امرأة أربعينية لم يسبق لها الزواج.. استكانت روحه وهدأت قليلا بعد أن أنجبت له توءمين.. فشقوق الأرض ولهي حبات المطر.. هي المصائر لا يصنعها أحد بإرادته.. قل لمن يحمل هما.. إن هما لا يدوم جميع من في المصلحة شارك بالهدايا وملابس الطفلين الجميلين والتي كانت الشمس تشرق من شقائق خدهما.. ما أجمل أن تنبت أشجار الغابات بعد سني عجاف وتخضر صحاري العمر.. ذهبت عنه الكآبة ومتاعب الخمسين ولمعت في عينيه إشراقة بعد أن أوشكت علي الانطفاء.. تري هل كان في عجلة من أمره وهو يعتصر من الزمن الشحيح كل قطرات الفرح التي غادرته في سنواته المجدبة.. ليموت بعد شهور ستة من ولادة طفليه لتذهلنا الحياة بمنطقها غيرالمتوقع في أشياء تخاف أن نواجهها أو نتعمق في فهمها.