كان النبى، صلى الله عليه وسلم، مرهف الحس فياض العاطفة رقيق الشعور عظيم الرحمة وقد حفظت لنا كتب السير والسنن مواقف مختلفةمرت به، صلى الله عليه وسلم، فاهتزت لها مشاعره وتأثر بها وجدانه فيحزن قلبه وتدمع عيناه ويبكى. عن على بن أبى طالب، رضى الله عنه، قال: "إنا لجلوس مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى المسجد، إذ طلع علينا مصعب بن عمير وما عليه إلا بردة مرقومة بفرو، فلما رآه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بكى للذى كان فيه من النعمة والذى هو فيه اليوم، ثم قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كيف بكم إذا غدا أحدكم فى حلة وراح فى حلة، ووضعت بين يديه صحفة ورفعت أخرى، وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة. قالوا: يا رسول الله، نحن يومئذ خير منا اليوم نتفرغ للعبادة ونكفى المؤنة، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "أنتم اليوم خير منكم يومئذ". رواه الترمذى. كان مصعب بن عمير أو مصعب الخير كما سماه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من أنعم فتيان مكة وكان فتى مكة شبابا وجمالا، وكان أبواه يحبانه حباً عظيماً، فلم يكن بين فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه بمثل ما ظفر به مصعب بن عمير، فكان يلبس أحسن الثياب وأرقه، وكان أعطر أهل مكة يعرفه أهل مكة بعطره الذى يفوح منه دائمًا، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يذكره ويقول: "ما رأيت بمكة أحسن لمةً، وأرق حلة، ولا أنعم من مصعب بن عمير"، ولكن ترفه هذا لم يمنعه من قبول الحق والدخول فى الإسلام وهو يعلم أنه سيسلب النعيم الذى هو فيه فأسلم مع رسول الله فى دار الأرقم وكتم إسلامه خوفا من أمه وقومه فعلم أهله وأمه، فأخذوه فحبسوه، فلم يزل محبوسا إِلَ ى أن هرب فهاجر إِلَ ى الحبشة وعاد من الحبشة إِلَ ى مكة،وبعد بيعة العقبة الأولى بعثه النبى، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة ليعلم المسلمين هناك شرائع الإسلام، ويفقههم فى الدين فكان أول سفير فى الإسلام وأول من جمع الناس للجمعة بالمدينة وتبدل حال مصعب، رضى الله عنه، بعد ما ضحى بماله ونعيمه كله فى سبيل الله وآثر الآخرة على الدنيا، وأصبح الفتى المدلل المنعم لا يرى إلا مرتديا أخشن الثياب، ويدخل مصعب، رضى الله عنه، على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يلبس ثوبا مرقعا باليا وهنا بكى النبى، صلى الله عليه وسلم، لما رأى من حاله وقد كان قبل إسلامه يلبس أحسن الثياب وينتعل أفضل النعال ويتعطر بأفخم العطور ولكنه ترك ذلك كله حبا لله ولرسوله حتى خرج من الدنيا شهيدا فى غزوة أحد ولا يوجد ما يكفن فيه سوى ثوبه الذى عليه إن غطوا رأسه بدت رجلاه وإن غطوا رجليه بدا رأسه حتى قال خباب، رضى الله عنه: هاجرنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نبتغى وجه الله ووجب أجرنا على الله، فمنا من مضى ولم يأكل من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير.