قال ابن عربي في عبارة وجيزة تحمل في طياتها تناقضا قد يحس ويمس في تناص عجيب يتم استحضار نص بنفس تركيبته اللغوية, مع تقديم وتغيير وضعه في السياق, ذلك كاف تماما لإبدال ماهية النص ثم يشير عليك أن جنب النص, وعليك بالفحص والبحث, مفهوم التناص وقيمته في تقاطع التحليل النقدي مع ما يوحي به النص ذاته مع نصوص أخري مشابهة أو مشهورة ودالة, ولكن نصنا هو من بعثها من مرقدها وأوقدها علي قمم الفكر فأحياها بعد موات وفوات أمرها هذا لا ينطبق علي كل النصوص, لكنه في الإجمال طريقة في توليد معان مقصودة بذاتها رأي المؤلف أو الشاعر أن في إمكانه أن يقول منها وعنها وفيها أقوال أخري( في حرب البسوس) مثل ما فعل دنقل أو الأبنودي في الهلالية, وهذا يتداخل في عمق العملية اللغوية فنحن هنا إزاء شفرة مرقطة وبنائية علي ما سبق أن وعته الذاكرة لدي المتلقي, وسمعت به وحفظته يفعل ذلك شعراء كبار مثل عفيفي مطر, درويش ومحمد صالح صاحب( خلط الزوال وصيد الفراشات) وهي المساحة الأكثر اتساعا في الحياة, والتي تعادل بالمنطق المستوي الشعري التصوري في تجارب شعراء آخرين لم يكتب لهم الاستمرار في تجسيد اللغة, ديوان أرض الفراشات السوداء للشاعرة ليلي بارع يحمل تلك السمات, ولعلنا إن عدنا إلي مدرسة( الفن للفن) التي ظهرت في القرن التاسع عشر في فرنسا, وكانت تسعي إلي إبراز الجمال, وفي زعمهم أن ذلك مقدم علي كل هدف وغاية, وإذ عدنا إليها وفي ذهننا كثير من آراء النقاد واضعين ديوان الشاعرة ليلي بارع الأول الواضح في تبنيه لسلسلة اتجاهات فلسفية فنية قد تفضي بها فيما بعد إلي مزيد من الواقعية, تقول الشاعرة:( الكهوف أجمل إن دخلتها النساء, وزرعت غنبازا في مداخلها, ووضعت مرآة جنب المكتبة, وأطلقت عودا وبخورا وشريطا موسيقيا لإديت بياف) ص01 ثم( قالت الريح وعينها علي ذاك الكهف العالي, ذاك المطل علي سلسلة جبال توبقال.., يمكنني ذلك, قالت الريح, ولفت حول نوافذه كالثعلب سبع مرات..) ص11 يتضح هنا تمتع السرد بدرجة من جماليات الفصل والوصل, فنلاحظ أنه يتولد من أسلوب شاعري ذي إيقاع متوتر أوجد ما يشبه الغمغمة الغامضة أو لنقل خطاب الهذيان فالريح تقول وتمضي في الدوران, وفي لغتها الأخيرة تدرك أنها لن تدخل الكهف المغلق فتسكن وفي يدها سيجارتها, ويبقي لها أن تهز الأشجار محدثة تلك الرجفة والرجة التي تصاحب صفير الريح ومرورها, الناقد هنا يلاحظ ذلك التجسيد الجياش, ويلاحظ أن له أمثلة أخري في قصائد تالية( السنونو: خذي منه بيدك العاريتين قلبه الصغير, أجنحة غراب ومعطف)( موطن الفراشات السوداء: لست أعرف من أحرق حقل الورد, وأشعل النار في زهر اللوز, وحول قرص الشمس في كبد الوقت.. والأجنحة) ثمة إصرار واضح لدي الشاعرة علي تكثيف بنية النص المجازية, واستحداث تجسيد متجدد والتنقل بين الطبقات, والشظايا محاولة إعادة تشكيل العالم حولها في تناسب أسلوبي( استراحة الفراشة, فراشات الساحرة), وسنلاحظ أيضا أن المقاطع الشعرية صيغت بطريقة النبؤات التي يحتمل تفسير الواحدة منها ألف معني ومعني( والساحرة في هذه الأثناء تريد غبار نجمة واحدة, لتستدعي روح كل السحب المخبأة في عيون الملاك...) ص34 هناك مسافات داخل الخطاب الشعري مع وضوح النبرة( سيهلك كل الصيادين إلا واحدا, واحد فقط هو الذي سينجو, ذاك الواقف في وجه الريح الباردة علي الكابونيغرو البعيد, ستناديه الموجة الأخيرة, وتحوله إلي سمكتها الذهبية) هذه قيمة الحرية والانعتاق والخلاص, وهو الجو الذي أرادته ليلي بارع, وقد برعت فيه( فالقصيدة تمشي علي قدميها, ترفع شعرها بشريط أحمر من الحرير, ويشرق أمام ناظريها كما يحدث عند كل فجر, يوم جديد يوم جميل) هذا الشعر لا يسكب العواطف( حسب مذهب أليوت) بل يحاول أن يجسد عاصفا موضوعيا للمشاعر, ويرمز لها بحيث تنسي في لحظة ما ذاتية الشاعرة وتيارات فكرها, وإذا كانت ناجحة في عدد من القصائد( حكايتان تشربان الشاي)( وحوت الحب: وقلت لن تستطيع معي صبرا..) فإنها تعود في( حقل الصبار وأصدقاء الضوء الأخضر) لتظهر نفسها( علي شعرها الطويل الأشقر, سعيدة وخائفة, لا أقل ولا أكثر لم يكن للخطوات صدي, كان لها هسيس فقط..) وقصائد أخري مثل( لفافة حشيش, وحشيش الطريق,( النجيلة تعني) وتبعا لمتغيرات المجتمعات الأوروبية وتياراتها الفكرية الحديثة, والتي تظهر في أدب وإبداع قوالب قصائد ديوانها, والذي نلاحظ أنه ليس نمضي الصور ولا يتكرر في الصفات إلا نادرا, وإذا افترضنا أنها كانت تحاول بهذا الديوان تجريب وتجريد عدد من النظريات الجديدة فقد نجحت في لفت الأنظار, فالأفكار ومأساة الشاعر التقليدية من أنه يعاني في إيصال أفكاره للعامة, هذا كله قد تجاوزته مستخدمة تجربتها الذاتية وطموحها وثقافتها في إفراغ طاقتها الشعرية الإبداعية, وقد استوعبت العديد من نتائج التيارات الغربية علي وجه الخصوص, والتي توافق مزاجها الزمني وميلها إلي إحياء مدرسة الرمزية والبرناسية غير عابئة بالأبراج العاجية التي قد تقع في مصيدتها فالنمط يعجبها, وهذا يستحق منها مخاطرة إصدار ديوان ينهج هذا الأسلوب الحواري والمتقاطع بين النصوص, فيندمج إلي درجة تصل بنا إلي القانون الجوهري لامتصاص نص داخل نص في حركة معقدة, ولكنها ممتعة للعقل والقلب في آن وربما هذا سر أن بعض القصائد قدمت لها بأقوال حيرتني؟!. تمثل ليلي بارع اتجاها, لا أدري إن كان سيلقي انتباها, أم قدر له أن يأفل صداه غير أنني مع تثمين هذه التجربة الشعرية لعدة مميزات قد أحاطت بها واستنبطتها من النصوص, بين براءة وطزاجة التجربة الشعرية والطموح الآمل في إنجاز شخصي يحسب للديوان, ثم تلك الوداعة والرقة الهشة التي تمثلها الفراشة؟! حتي التي تكون سوداء وتنتمي أحيائيا لحشرات الملابس( وكأنه مات في البال, وكأنني أشفق علي الخاطر, إن أخبرته يوما, كم بعيدة المسافة نحو الضوء الذي آنست ناره, فوق جبل الثلج؟!. حتي تنتهي إلي قولها: وكأنه مات بالبال,( لم أغن في ذكري رجوعه أي أغنية ولا عزفت علي ناي العودة أي موال). هذا التأويل لا يعتمد في ظننا علي حركة العقل وحده الذي هو ممثل الثقافة الطاغية بل علي العديد من القوي الإدراكية التي ظلت تقدم مبرراتها وتبرهن علي وجودها, والذي جاءت في العديد من الصور( ما جدوي القفز بين الاحتمالات والأرقام؟) في( الثلث الأخير من الليل ومشنقة الأسئلة في حوار صامت مع سائحة مفلسة بساحة الهديم عن يوسف والسيدة الصغيرة وحكي المرايا) هل أشعر أن النص قد راوغني واستغلق وخفق وأغلق من دوني الباب, قد قضي قميصي من دبر ومن أعلي ومن الأجناب, ثم تركني علي الأسباب, تساعدني إن جد في الأمر إياب, أقول, محال, عقد النص صلحا بين الدال والإثبات وانطلق في قفزات مفهومة طليقة بغير حساب حتي إن صارت كل مسافات الطول والعرض متاهات.. فعاد؟!.