ما أكثر ما صدم التاريخ بوحوش آدمية.. وقف أمامها مذهولا خجلا.. ولاتزال مزبلته تطفح بأمثال أولئك الطغاة, الذين سودوا العديد من صفحاته. واذا كان الامبراطور الروماني نيرون هو عنوان الشهرة لاولئك في القدم.. فان هناك رأيا في القذافي لم أجد أصدق منه ولا أحكم بأنه أول ديكتاتور يهدد شعبه بالحرب الأهلية حتي آخر نقطة دم. *** خلف نيرون الامبراطور الروماني كلوديوس عام54 م, وكان نيرون وحشا ضاريا شغوفا بسفك الدماء, قتل زوجته بلا لذنب اقترفته في حقه, إنما لاظهار شغفه بعاهرة يهودية تدعي يوبيا تزوجته بعد أن جعل دم زوجته مهرا لها, واذهبت ضربته الثانية علي أمه أجريبينا قتلها بسبب خبث سريرته, ظنا منه أنها كانت تنازعه في سلطانه, وبعد ذلك تعاقبت سلسلة الاغتيالات في الحكام والقواد والمقربين, حتي انه قتل مربيه ومستشاره المقرب وناصحه الأمين الفيلسوف الشاعر سينيكا. وماجري علي يد نيرون, يشبه شيئا من قبيله فيما جري علي يد معمر القذافي الذي لم يأل جهدا منذ باكورة عهده في الحكم في سبيل التهميش أو التخلص ممن قاموا معه بثورة الفاتح من سبتمبر, وبعد ذلك تعاقبت سلسلة التضييق والقمع لكل من لم يجد فيه القذافي تابعا له, ونستطيع أن نستمر طويلا في ضرب الأمثلة الدالة علي ذلك. وحسبنا منها لضيق الحيز مجزرة سجن بوسليم التي راح ضحيتها حوالي1200 ليبي, ومنذ البدء استثمر القذافي التلذذ بملذات الديماجوجية. التي غدت السمة الغالبة لفترات حكمه, ومن ثم لم تقتصر جرائمه علي جماهيرية الخوف, بل تعدتها إلي العمق الاقليمي والدولي, وقصص اختطاف الامام موسي الصدر والمعارض منصور كخيا ونسف طائرات الركاب باتت مشهورة, ويستفاد مما جاء في المصادر التاريخية, أن حريق روما, ذلك الحريق الذي قام به نيرون, كان بايعاز من يوبيا التي كان شعبها يتربص بالمسيحيين كما أوعزت اليه بالقبض علي الرسولين بطرس وبولس وصلب الأول وقطع رأس الثاني, وكم كان نيرون يطرب لرؤية غيره يتألم, وأحب المناظر لديه كان رؤيته للحيوانات المفترسة تمزق الرجال أشلاء متناثرة, ولسنا هنا بحاجة إلي عقد المقارنة, فما جاء في خطاب الابن وبعده بيوم في خطاب القذافي الطويل يكفي, فالمعني واضح وليس بحاجة إلي تكرار. وفي يوليه عام64 م, شب حريق هائل في روما, دمر الجزء الأكبر من عاصمة الامبراطورية, واجمع المؤرخون علي أن نيرون هو الذي أمر بإحراقها, وكان يجلس في برج محاطا بزبانيته, يراقبها ويلعب علي قيثارته في حالة لامثيل لها من الطمأنينة والسعادة والانشراح, وكان من الطبيعي بل من المحقق أن نيرون يبحث عن كبش للفداء يلقي عليه بالتهمة ليبرئ نفسه ويروي تعطشه للدماء. وفي هذا يقول المؤرخ الروماني تاستيوس عام115 مم: لكي يتخلص الإمبراطور من هذه الشائعات, ألقي بالتهمة علي جماعة من الناس مضطهد يطلق عليهم عادة المسيحيون وأوقع بهم العقاب علي هذه التهمة, ولم يكتف بقتلهم فحسب, بل تم استخدامهم وسيلة لتسلية أهل روما. فألبسوا جلود حيوانات, وحبسوا في أقفاص الكلاب المتوحشة ففتكت بهم, وصلب البعض وأحرق آخرين, ليضيئوا حدائق روما, ولقد فتح أبواب حدائقه ليري الناس كل هذا, واختلط هو بينهم في ملابس سائق عربة, هذا التعذيب قاد كثيرين إلي الشفقة عليهم, لأنهم عرفوا أن هؤلاء المساكين يعذبون لا لجريمة اقترفتها أيديهم بل لاشباع شهوة القتل. ومثل هذه الاعتبارات قمينة بأن تقودنا إلي فظائع القذافي وابنه سيف الظلام في حق المحتجين من أبناء شعبهم, فما أن ينتهيا من جريمة, حتي يعمدا إلي أخري أفظع وأنكي, ومن ذلك تكرارهما بلا ملل انتماء المحتجين إلي تنظيم القاعدة, آملا بأن يؤلب عليهم العالم بأجمعه, بحيث ينتدبه لقيادة جيوش أممية لتطهير ليبيا شبرا شبرا وبيتا بيتا وشارعا شارعا وزنقة زنقة, وقد وصف المحتجين بالمقملين الجراثيم العملاء, وغير ذلك من البذاءات التي لا تصدر إلا علي ألسنة أحط طبقات المجتمع ومن المفارقات الخسيسة, أن أقراص الهلوسة التي لم يكل القذافي وابنه من اتهام المحتجين بتعاطيها بإيعاز من بن لادن إن هي إلا سلعة يتعاطاها ويتاجر بها ابن القذافي الساعدي ويعرف ذلك كل أبناء الشعب الليبي, يجلبها ليتعاطاها أفراد كتيبته الأمنية خاصة المرتزقة منهم, كما يزود بها أفراد كتاتب أخوته الأخري, لينزع منهم كل العواطف الانسانية أثناء خوضهم للمعارك, محتذيا بذلك بفرقة الحشاشين الإسماعيلية أيام الحروب الصليبية, والتي أوقعت بالمسلمين آنذاك شتي صنوف الأذي, ويقودنا ذلك إلي تحريض القذافي وابنه علي قتل المصريين والتونسيين. لم يكن نيرون مكروها من المسيحيين فحسب, فقد أثار غضب النبلاء لاضطهاده إياهم. كما أثار سخط الجيش والشعب علي حد سواء, وقد أوردنا نبذات قليلة عن تنكيل القذافي بالنخبة من أبناء شعبه حتي يكاد لا يوجد منهم في وطنهم إلا النذر اليسير. وفر أكثريتهم إلي دول المهجر, أما المؤسسة العسكرية, فقد تم تهميشها لمصلحة المؤسسة الأمنية, التي تتألف من سبع كتائب يقود كل منها أحد أبناء القذافي, ولم يقتصر تزويد هذه القبائل علي أحدث العتاد والسلاح بل زودت بآلاف من المرتزقة من الأفارقة والصرب وغيرهم, الذين باتوا بعد ثورة17 فبراير, الركن الحصين لجماهيرية الخوف في التصدي للمحتجين بالبطش والترهيب, حين خذل الكثيرون من أفراد الجيش والأمن والأسرة الفاسدة الحاقدة المريضة, وانضموا إلي الثائرين في مواجهة بقايا جيش القذافي وقواته الأمنية واللجان الثورية سيئة السمعة, وأعتقد ولا أطن إلا أن الكثيرين يشاطرونني الاعتقاد, بأن الرياح ستأتي بما لا تشتهيه سفن القذافي, وسيكون مصيره نفس مصير نيرون, وعند هذا الحد نجد العون في العامة ه. ج. ولز الذي يذكر في كتابه معالم تاريخ الانسانية أنه من الشائق أن نلحظ أنه لم يصبح مكروها, لأنه كان يقتل المقربين له ويدس لهم السم, بل لأنه حدث في زمانه عصيان في بريطانيا تحت قيادة ملكة تدعي بوديكيا فأصيبت من جرائه القوات الرومانية بكارثة عظيمة عام61 م, ولأن زلزالا مدمرا حدث في جنوبي ايطاليا, وكان شعب روما المحافظ لايبالي أن يتولي أموره قيصر خبيث شرير, لكنه يعترض اعتراضا شديدا علي أن يحكمه قيصر يري فيه الشؤم وسوء الطالع.. فثارت الكتائب الاسبانية تحت قيادة جاليا فنادوا به امبراطورا وزحف إلي روما وليخلص نيرون نفسه من ذل الموت علي يد شعبه, قرر أن يقتل نفسه إلا أنه كان من الجبن بحيث لم يستطع أن يغمد السيف في قلبه, وبينما كان في تردده رافعا السيف إلي صدره شاكيا باكيا, نفد صبر خادمة, فدفع النصل إلي الداخل, وكان ذلك في12 من يونيه عام68 م, وهكذا تخلصت روما من أسوأ ديكتاتور عرفه تاريخها. رئيس مركز التراث الفلسطيني