عشت جزءا غير قليل من حياتي أهتف وأتابع وأقاتل من أجل القضية الفلسطينية; ولكن القضية سرعان ما ضاعت من بين أصابعنا وأخذتها أجيال وجماعات أخري. ومن وقت لآخر كانت تظهر أعاجيب شتي يبدو فيها القائمون علي القضية وكأنهم يعيشون حالة من التنويم المغناطيسي الذي جعلهم لا يعرفون الفارق ما بين الحقيقة والخيال, والماضي والحاضر, والواقع والتمنيات. أنظر ما يجري حاليا في القضية بعد أن نشرت قناة الجزيرة مجموعة من الوثائق التي تبدو وكأنها أسرار لم يعرف عنها أحد شيئا من قبل. ومع الأسرار يجري المشهد الفلسطيني كما هو معتاد حول موقف جديد لم يكن له مثيل من قبل, وإزاء الموقف ينقسم الجمع إلي خونة وأنبياء للتأكيد علي مواقف سابقة ومعروفة, ولن ينسي أحد بعد الحديث عن الخيانة والبطولة أن يبدي استعداده للمصالحة الوطنية في أي وقت. الحقيقة التي يعرفها الجميع ولكنه ينجر إلي المشهد في كل الأحوال هي أنه منذ اتفاقيات أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين وأكدتها المفاوضات التي جرت منذ ذلك التاريخ وتصديق الشعب الفلسطيني عليها من خلال انتخابات تشريعية ورئاسية شملت حتي سلطة حماس قبل انفصالها إلي غزة, هي محاولة عقد صفقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين, باعتبارها الصفقة أفضل بكثير لكلا الطرفين من استمرار الصراع. وكما هو الحال, وطالما أن طرفا لم يحقق انتصارا عسكريا ينهي وجود الطرف الآخر, فإن' الصفقة' سوف تعني وجود تنازلات متبادلة من الطرفين لا يؤدي أي منها إلي نهاية أو فناء الطرف الآخر لأن نهاية أو فناء أحد الطرفين يعني ببساطة أنه لا توجد صفقة. كان ذلك هو الحال منذ اتفاق أوسلو وحتي اليوم, وعلي أساس المبادئ السابقة جري بحث الأمور المعلقة بين الطرفين, ومن بينها قضايا اللاجئين والقدس والمياه والحدود والبيئة وغيرها. ولم يكن في الوثائق المنشورة أمر واحد لم يتم نشره من قبل لا في المذكرات المختلفة التي قصت قصة مفاوضات كامب دافيد في صيف عام2000 ولا مفاوضات طابا في يناير2001, ولا ما جري بعد ذلك من مشاورات ومفاوضات بين محمود عباس وأولمرت نشرت الأهرام ملخصها فيما هو معروف باسم وثيقة عريقات, كما أعادت عرضها في مقالة أخري بعنوان الطريق إلي شرم الشيخ بعد استئناف المفاوضات بين محمود عباس وبنيامين نتنياهو. كل المواقف التي جري الحديث عنها وكأنها اكتشاف جديد جري الحديث عنها من قبل ولكن مقابل: قيام دولة فلسطينية, حدودها حدود الرابع من يونيو1967, وعاصمتها القدسالشرقية. وبات من الطبيعي والحال كذلك أن تستقبل الدولة الفلسطينية الفلسطينيين في الشتات أو معظمهم, أما عودتهم إلي إسرائيل فإن معني ذلك هو نهاية الطرف الآخر لأن الأغلبية سوف تكون للفلسطينيين, ومعني ذلك نهاية المنطق الذي قامت عليه المفاوضات من الأصل وقيام منطق آخر قائم علي إحقاق الحق وإقامة العدل الكامل الذي لا يقوم إلا إذا كانت الجيوش الفلسطينية أو العربية أو كلاهما معا علي أبواب القدس وتل أبيب, أو أن العمليات الانتحارية والاستشهادية قد جعلت القيادات الإسرائيلية جاثية علي الأرض تطلب الاستئذان في حمل حقائبها لكي ترحل إلي بلاد أخري. كل ذلك ليس موجودا بالطبع في الواقع, وما هو موجود لدينا هو اتسام أفق التسوية السلمية بين الفلسطينيين وإسرائيل بالانغلاق, ولا توجد مؤشرات محددة بحدوث انفراجة ما من شأنها استئناف محادثات السلام بينهما, بحيث صار الحديث الجاري الآن عن مرحلة ما بعد استنفاد المفاوضات, لاسيما مع رفض إسرائيل قرارها بتجميد البناء الاستيطاني الذي كانت قد اتخذته في نوفمبر2009 لمدة عشرة شهور, فضلا عن تعثر جهود الوساطة الأمريكية بينهما, في ظل تحذيرات من انفجار قد يؤدي إلي اللجوء للعنف لمواجهة هذا التعثر. وأن هذا الوضع سوف يظل قائما حتي تطرح الإدارة الأمريكية مبادرة جديدة أو مع حدوث تغيير جوهري في تركيبة الحكومة الإسرائيلية. فقد استبعد وزير الخارجية الإسرائيلي افيجدور ليبرمان, الذي يتزعم حزب إسرائيل بيتنا ذا التوجهات العدائية للسلام, حدوث تسوية بين الفلسطينيين وإسرائيل خلال الأعوام العشرة المقبلة, حيث عرض خطة للتوصل لاتفاق مرحلي بعيد المدي مع الفلسطينيين يقوم علي البعدين الاقتصادي والأمني في هذه المرحلة, بدلا من التوقيع علي اتفاق شامل يبدو تحقيقه مستحيلا, إلا أن الرد الفلسطيني اتسم بالرفض الشديد لهذا المقترح والتمسك باتفاق سلام شامل ودائم. ورغم اعتراف عدد كبير من دول أمريكا اللاتينية مثل البرازيل والأرجنتين وبوليفيا والأكوادور وتشيلي وبيرو بالدولة الفلسطينية إلا أن وزير الشتات الإسرائيلي يولي ادلشتاين صرح منذ أيام في بروكسل بأن الاعتراف الأحادي الجانب بالدولة الفلسطينية يحقق عكس المطلوب. ووفقا لما يشير إليه الرئيس الفلسطيني محمود عباس فإن سبتمبر2011 سيكون محطة هامة في إطار الجهود الفلسطينية لإقامة دولة مستقلة علي الحدود التي تحتلها إسرائيل منذ العام1967, وهو ما يعود إلي ثلاثة عوامل جوهرية: أولها, إعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما أنه في سبتمبر ستكون فلسطين عضوا كامل العضوية في مجلس الأمن وذلك خلال خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة العام الماضي. ثانيها, إعلان اللجنة الرباعية الدولية( الولاياتالمتحدةوالأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا) أن المفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل ستبدأ في سبتمبر الماضي وتنتهي في سبتمبر المقبل بموجب مهلة العام التي حددت لها, بحيث يسدل الستار علي الفصل الأخير من اعتماد المفاوضات كأسلوب وحيد لحل الصراع. ثالثها, انتهاء خطة الحكومة الفلسطينية التي يتزعمها سلام فياض الخاصة ببناء مؤسسات الدولة الفلسطينية خلال عامين لتكون جاهزة عند إعلان الدولة. إن التعثر إذن هو الملمح الحاكم للمفاوضات التي تم طرحها للتسوية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي منذ اتفاق أوسلو إلي مشروع كلينتون إلي خطة خارطة الطريق ومبادرة السلام العربية وغيرها, حيث يصطدم الطرفان بتعارض مطالبهما, وتتم العودة إلي المربع رقم واحد مرة أخري, ويطالب الفلسطينيون بتدخل الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي نظرا لممارسات العنف التي تمارسها إسرائيل واستكمال مشروعها الاستيطاني لفرض واقع ديموغرافي جديد, في حين تعلن إسرائيل عن غياب رغبة الطرف الفلسطيني في تحقيق السلام لاسيما مع تعدد فصائله سواء في الداخل أو الخارج. لقد شهدت نهاية العام2010 جدلا حول التحقيق مع محمد دحلان أحد رموز فتح بما يعكس شكوكا قوية حول التماسك الداخلي للحركة, في حين تتجه حكومة حماس المقالة إلي توسيع نطاق نفوذها وسيطرتها علي الداخل في غزة وتضم في عضويتها عناصر تنتمي إلي فصائل فلسطينية أخري كالجبهة الشعبية والجهاد. كما توجد مشكلة حادة لإنجاز مصالحة فلسطينية داخلية, حيث فشلت كل المبادرات التي أطلقتها جهات فلسطينية مختلفة لوضع حد للانقسام الداخلي بين حركتي فتح وحماس وهو ما برز في التصريحات الإعلامية والممارسات العملية. ففي تصريحات صحفية لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل في منتصف يناير الحالي, أشار إلي أن أفق المصالحة الفلسطينية بعيد جدا, وأن قيادة حماس متشائمة حيال فرص نجاحها في هذه الظروف, لكنها تتمسك بقناعتها, بأن المصالحة ضرورة وطنية ستبقي تعمل من أجلها, ورد عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عزام الأحمد علي تصريحات مشعل بالقول أن هذا التصريح يأتي في سياق رفض حركة حماس للمصالحة وعدم حسمها بشأن التوقيع علي الورقة المصرية. فضلا عن ذلك, حدث تبادل للاتهامات بين فتح وحماس حول المعتقلين السياسيين. وهناك ما يشبه الحرب الإعلامية التي تشن ضد السلطة الفلسطينية. فقد أطلقت شبكة الجزيرة موقعا جديدا سمته كشاف الجزيرة يتضمن نحو1600 وثيقة تتألف من أكثر من ستة آلاف صفحة تسجل تفاصيل المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية والدول المنخرطة فيها الممتدة بين عامي2006 و2008 وقد أظهرت هذه الوثائق السرية أن مفاوضي السلطة الفلسطينية قدموا تنازلات جوهرية بشأن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلي ديارهم وهو يعد من الثوابت الأساسية لحركة التحرير الفلسطينية. ووفقا لمذكرة داخلية لمفاوضي السلطة مؤرخة في24 يوليو2008, فإن الرئيس محمود عباس قدم عرضا متدنيا جدا لعدد اللاجئين العائدين إلي أراضي48, وتؤكد هذه المذكرة إن الجانب الفلسطيني مستعد للتنازل عن حق عودة ملايين اللاجئين والاكتفاء بعودة عشرة آلاف لاجئ سنويا لمدة عشر سنوات( أي بما مجموعه مائة ألف لاجئ), مع إمكانية تجديد هذه الاتفاقية بموافقة الطرفين. ولكن حتي هذا التنازل رفضته إسرائيل, حيث كان العرض المقدم من رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أيهود أولمرت في31 أغسطس2008 مفاده إن إسرائيل ستسمح بعودة ألف لاجئ سنويا لمدة خمسة أعوام, وذلك لدواع إنسانية. وقد قالت وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني, أثناء الاجتماع مع رئيس طاقم المفاوضات في السلطة الفلسطينية أحمد قريع في22 يناير2008 لا أريد أن أخدع أحدا, لن يكون هناك أي مسئول إسرائيلي سواء من الكنيست أو من الحكومة أو حتي من العامة يؤيد عودة اللاجئين إلي إسرائيل.. هناك العديد من الشعوب حول العالم مستعدون للمساهمة في حل قضية اللاجئين. كما أظهرت وثائق أخري تنازلات السلطة الفلسطينية بشأن يهودية إسرائيل وحدود الدولة الفلسطينية المفترضة. ووفقا لمحضر اجتماع حضره أحمد قريع مع وزيرة الخارجية السابقة ليفني في22 يناير2008, قال قريع أود أن اقترح أن الأساس هو حدود1967, ولكن نحن قبلنا بتعديلها ونحن ملتزمون بهذا. وأضاف إن مساحة الأراضي المقايضة وموقعها هو ما يجب أن يناقش بعد ذلك لكن ليفني رفضت أن تكون الحدود مرجعية, وقالت لا استطيع قبول هذا. وفي نفس الاجتماع حاول قريع إقناع ليفني بالتنازل بقوله سنهزم حركة المقاومة الإسلامية حماس لو توصلنا إلي اتفاق, وسيكون هذا هو ردنا علي دعواهم بأن استعادة أرضنا يمكن أن يتحقق فقط عبر المقاومة. ووفقا للوثائق فقد اعترف الرئيس محمود عباس بأن هناك مقترحات بتبادل الأرض, وإعطاء نسبة مئوية من الضفة الغربية مقابل نسبة مئوية أقل من أراضي1948, وأضاف نريد قبل كل شيء أن يكون الأساس هو خط4 يونيو1967, ثم نبحث تبادلا صغيرا, ونريد ممرا آمنا بين الضفة الغربية وقطاع غزة. كما قالت وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني في اجتماع موسع مع قريع في21 يونيو2008 أن بعض القري الفلسطينية التي قسمت إبان حرب1967 يمكن أن تكون جزءا من عملية التبادل, ومنها قري بيت صفافا, وبرطعة وباقة الشرقية وباقة الغربية. أما صائب عريقات فكان أكثر تحديدا خلال اجتماع عقده مع المبعوث الأمريكي إلي الشرق الأوسط جورج ميتشل في27 فبراير2009, حينما قال عندما تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت عن مبادلة6.5% ب5.8% ووافق عباس علي التبادل في القدسالشرقية, فإن هذا بالغ الأهمية. كما كشفت الوثائق عن عدم معارضة السلطة الفلسطينية للطرح الإسرائيلي بشأن يهودية الدولة, حيث أقر صائب عريقات بشكل صريح في اجتماع للفريق التفاوضي قبل مباحثات أنا بوليس في13 نوفمبر2007 بحق إسرائيل في تعريف نفسها كما تشاء. وأظهرت الوثائق أيضا تلويح المفاوضين الفلسطينيين بحل الدولة الواحدة في حال استحالة تحقيق حلمهم بدولة مستقلة. ووفقا لمحضر اجتماع مع المبعوث الأمريكي إلي الشرق الأوسط جورج ميتشل في21 أكتوبر2009 فقد قال عريقات إن الإسرائيليين لا يستطيعون أن يقرروا ما إذا كانوا يريدون دولتين, هم يريدون أن يواصلوا الاستيطان.. وإذا فشل كل شيء وسيكون خيارنا هو الدولة الواحدة وفي اجتماع آخر في13 أكتوبر2009 مع مبعوث الأممالمتحدة الخاص بعملية السلام في الشرق الأوسط بوبرت سيري, قال عريقات سوف نستمر في المحافظة علي الأمن, سلطة واحدة وسلاح واحد وحكم القانون, ولكننا سنطالب بحقوق متساوية في دولة واحدة. كما أفادت الوثائق بأن الوفد الفلسطيني لم يعتبر الحي القدسي خطا أحمر أثناء جلسات التفاوض, وأظهرت عرضا فلسطينيا للتنازل عن الحي اليهودي وجزء من الحي الأرميني في القدس. وفيما يتعلق برد فعل حماس علي نشر هذه الوثائق, قال سامي أبو زهري الناطق باسم الحركة في24 يناير الماضي إن الوثائق السرية التي عرضتها الجزيرة حول تواطؤ سلطة فتح في رام الله مع الاحتلال, وثائق خطيرة للغاية وتدلل علي تورط سلطة فتح في محاولات تصفية القضية الفلسطينية خاصة في ملفي القدس واللاجئين, وكذلك التورط ضد المقاومة في الضفة, والتعاون مع الاحتلال في حصار غزة. في حين نفي صائب عريقات ما نشرته قناة الجزيرة وقال إنها ليست سوي أكاذيب وأنصاف حقائق. كما اتهم أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه قطر بالوقوف وراء ما سماها الحملة التي تقودها الجزيرة ضد السلطة الفلسطينية لتشويه صورتها أمام الرأي العام, وأوضح أنه لن يناقش صحة أو عدم صحة الوثائق بل يدعو مؤسسات الأبحاث الفلسطينية المستقلة إلي المبادرة بتشكيل لجنة لدراسة هذه الوثائق. كما أعربت السلطة عن استعدادها لنشر وثائقها وأرشيفها الخاص بملف المفاوضات مع إسرائيل لتوضيح المواقف للرأي العام الفلسطيني والعربي. وأكد مسئول ملف القدس في حركة فتح أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أطلع المسئولين الفلسطينيين علي أنه تلقي أثناء مفاوضاته مع إيهود أولمرت عرضا يعتبر أن القدسالشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية, لكن عباس رفض ذلك. كان ذلك هو تفاصيل ما جري علي الساحة الفلسطينية حيث بدا ما جري وفق منطق الصفقة, وذاعت تفاصيله في كتب ووثائق عديدة من قبل, كما لو كانت أسرارا جديدة تكفي لتعميق الفجوة داخل الصف الفلسطيني دون إدراك إلي أن اتفاقا لم يحدث, وما جري من تنازلات لن تكون له قيمة ما لم يتم الإعلان علي ما تم الحصول عليه من مكاسب. فالحقيقة المرة هي أنه لا يوجد الآن إلا سلطتان سياسيتان فلسطينيتان تعملان وفقا لاتفاقيات أوسلو في أرضين مختلفتين. هذه هي القضية التي لا ينبغي لأحد الهروب منها.