أظن أن أهم ماتكشف عنه رسائل عبد الحكيم قاسم في كتاب الصديق محمد شعير كتابات نوبة الحراسة الصادر أخيرا عن دار ميريت أن هذه الرسائل ليست هامشا علي المتن, بل هي جزء أصيل من المتن ذاته بعبارة أخري لايمكن فهم هذه الظاهرة العاصفة التي تألقت كالشهاب وأنتجت كل هذه الأعمال المبهرة,دون أن نقرأ الرسائل التي لانكتفي بإلقاء الضوء هنا وهناك علي أعماله الروائية والقصصية, بل أزعم أن هذه الأعمال تظل غير مكتملة حتي نقرأ رسائله. والحال أن ماقدمه محمد شعير في كتابه يعد انجازا مهما يضيف إلي ويغني الظاهرة العاصفة وأعني بها بالطبع ظاهرة عبد الحكيم قاسم. قاسم رحل عنا منذ عشرين عاما, واذا كان المجلس الأعلي للثقافة قد احتفل به أخيرا وعقد ندوة حافلة بهذه المناسبة, فإن الجهد الذي بذله محمد شعير في السعي وراء رسائله الخاصة التي أرسلها لعدد من أصدقائه جهد هائل في حقيقة الأمر, فقد جمع رسائله لعشرة كتاب فضلا عن رسائله لشقيقه الراحل عبد المنعم قاسم وباستثناء رسائله للناقد الراحل ناجي نجيب الذي كان يقيم آنذاك خلال عام1973 في المانيا بينما كان قاسم لايزال في القاهرة فإن رسائله التالية منذ عام1975 وحتي عام1985 أرسلها قاسم من برلين حيث أقام هناك عشر سنوات لانجاز رسالته للدكتوراه عن الأدب المصري والتي لم يتمها للأسف وأغلب الظن أنها بين أوراقه الخاصة لاتزال,وإلي جانب الدراسة الطويلة التي قدم بها شعير للرسائل, قام أيضا بتدقيق الرسائل وإضافة الحواشي اللازمة, كما قام بإعداد ملحقين يضمان سيرا ذاتية سريعة لأصحاب الرسائل, أو سع قليلا لعبد الحكيم قاسم. لذلك أود أن أؤكد علي الجهد الخاص الذي بذله محمد شعير, إلا أن هذا الجهد ليس توثيقيا أو لخدمة النقد الأدبي فقط,بل وهو الأهم يضيف الي أعمال قاسم وقراءة أعمال قبل الرسائل أو بعيدا عنها ستظل قراءة ناقصة خصوصا إذا وضع القاريء في اعتباره أن القسم الأغلب من أعماله كتبت أثناء وجوده في المانيا, وهي الفترة ذاتها التي كتب خلالها رسائله لكل من شقيقه عبد المنعم قاسم( وبالمناسبة عبد المنعم لم يكن مجرد شقيق له بل صديقه وكان يتمتع بسلامة نفسية نادرة, ومحمد صالح ومحمد روميشي وحسني عبد الفضيل وبطرس الحلاق وادوار الخراط وسامي خشبة وسعيد الكفراوي ومحمود عبد الوهاب وكاتب هذه السطور. من جانب آخر فإن كل الرسائل بلا استثناء لاتتناول أمورا خاصة أو أسرارا أو سلامات وتحيات, بل علي العكس هي رسائل عالية الصوت وتحفل بالمراجعة والاكتشاف ورفض المسلمات والبحث في دقائق الكتابة سواء لديه أو لدي الآخرين ومراجعة التاريخ وفضح المسكوت عنه والاشتباك مع ماتم ترسيخه ورفضه بأعلي صوت, وربما بالصراخ ضده. فعلي سبيل المثال, وفي رسالته للقاص الراحل محمد روميشي من برلين والمؤرخة في81/3/25 يبدأها به: إلي أخي محمد بن عم الحاج صادق, وفي ثنايا الرسالة يقول له: تلك هي قضيتنا أذن اننا نؤمن بالأب.. ونري ان ذلك هو ضمان آصالتنا ضد اي تيارات تعصف بنا.. ونحن ثائرون علي نظرية الأب لأنها معوقة لنمائنا.. وعلي الفور أجدني في منطقة السؤال عن ماهية الكتابة.. والجواب يشحن قلبي يكاد يسابق الكلمات السائلة من قلمي.. ان الكتابة بالنسبة لنا ابناء الثقافة العربية التي تكافح من اجل مكانها علي الأرض.. الكتابة بالنسبة لنا جهد من لا يكل ليل نهار.. هم لا يرحم للصراع لتوضيح قضايانا.. لأنفسنا اولا لتعميق فهمنا لها.. ومن مجري هذه العملية سيجد القاريء الكريم ساعة وقت يزجيها مع كتاب ليتفرج علي كدحنا المؤلم لتعميق ادراكنا لعالمنا.. فيأخذ فكرة. هذا هو ما يناقشه قاسم مع صديقه: ما هية الكتابة وتناقضاتها وتناقضات الارث الثقيل الذي نحمله, وعلي مدي خمس صفحات يطرح تساؤلات الوجود ذاته, والعلاقة بالأب والأم, والسعي من اجل ان تكون الكتابة في ثقافتنا العربية حرة من الارتباط بالمؤسسات الفكرية المستقرة واداة لها, بل لكي تكون أداة لخلق الفكرة المتناسقة المتناغمة في مقابل مجتمع تعصف به القيادات, وتؤدي به إلي الخلاسية وفقدان الطعم واللون والشخصية. والواقع ان هذه الرسائل نصوص أدبية ايضا, وتعكس في جانب من جوانبها شخصية قاسم العاصفة والعالية الصوت في الحزن والفرح علي السواء, فهو يجأر بالصراخ مثلا بعد ان علم بموت يحيي الطاهر عبدالله صديقه الذي ما قابلته في حياتي الا وتشاجرت معه ولا تكاد تخلو رسالة من رسائله لاصدقائه من اشارة إلي فاجعته الشخصية في رحيل يحيي الطاهر, وفي النواح علي الطفل كريم ابن صديقه الشاعر محمد سيف والذي كان نزيل المستشفي نفسه الذي يعالج فيه الشاعر الراحل امل دنقل. وبعد أن غزا جيش الدفاع الاسرائيلي بيروت واحتلها لاجبار المقاومة الفلسطينية علي الرحيل علي مر أي ومسمع من البلدان العربية ذات السيادة, يكتب لروميشي ايضا في رسالة مؤرخة في1982/6/8: أحس انني كلما جررت شرطة او نقطت نقطة سقط عربي فلسطيني او لبناني او سوري برصاص الاسرائيليين ولا أقول لك انني حزين, انه احساس بان حياتي كلها سلسلة من الأخطاء وعليه فانني في اللحظة التاريخية الحاسمة هذه اقف موقف الخطأ ولو انني كنت أعرف الصح لسهل الأمر حتي انني بقيت علي خطئي, الفاجع انني لا أعرف, فأنا اواجه فناء ذاتي. وقد دفعته هذه الكارثة التي مضي عليها نحو ثلاثين عاما, أثناء كتابة هذه السطور, والتي كانت احدي اللحظات التاريخية المذلة للمعاصرين لها, دفعته لان يكتب في الرسالة ذاتها: انني ادرك الآن كيف انني عشت العمركله, اواجه في وطني قهرا حقيقيا واذلالا حقيقيا واعيش مع ناسي مقاومة غيرجادة وثورة مغشوشة وحماسة مدخولة, وما يلبث ان يضيف تلك نهاية جيلنا.. جيلنا فشل نهائيا وعلي كل المستويات. يعود قاسم لاسئلة الكتابة في رسالته لمحمود عبدالوهاب والمؤرخة في1984/11/16, ويتأمل بل ويحاكم المسلمات, فالأمر عنده ليس تصوير الواقع القائم, ولا خلق شبيهه بتعبيرات قاسم ذاته ولا فسحة بل الحوار معه, العراك معه عجنه وإعادة تشكيله, تفتيته وإعادة تركيبه او ابقائه علي حالة عجينة وفتاتا, وإذا كان مؤلف الف ليلة مثلا قد جعل الناس يطيرون ويتحولون الي قردة وخنازير ويأتون بالخوارق, فإن قاسم يعتبر هذا جهدا رائعا للحوار مع عصر الرشيد. اما رسالته الأخيرة التي كتبها لمحمود عبدالوهاب ايضا في1985/5/31 فقد كتبها وهو يلملم أوراقه موشكا علي الرحيل عائدا الي القاهرة, يتذكر البدو الرحل الذين كانوا ينزلون بالجرن في القرية, وكان ابوه يؤثرهم بمودته, وعندما تأملهم لاحظ ذلك التحرر الشديد من الارتباط بالمكان, لذلك يتساءل: هل انا بدوي؟ ويجيب: أنظر للقاهرة من مكاني هذا, اشتاق لها واحبها حب العليم بها فتلك قسمتنا ونصيبنا, وسنظل علي ذلك حتي آخر ما تطول به السن وحتي آخر ما تستطيعه اليد. وفي النهاية, فإن المجتزآت والأمثلة التي اوردتها فيما سبق لم تكن الا نماذج اخذتها علي نحو عشوائي, وهناك عشرات النماذج الأخري بطبيعة الحال, والمهم ان يقرأها القاريء باعتبارها نصوصا أدبية.