يبدو أن هناك من يمسك بكتاب الوطن مقلوبا فلا يستطيع قراءة سطوره الحقيقية, وانما يعطينا وحيا مزعوما من بنات أفكاره الهابطة فجأة, فإذا به يتحفنا بآراء ومقترحات تعد في أفضل الحالات مجرد رؤي يستيقظ عليها, ويريد من المصريين جميعا ان يخرجوا إلي الشوارع, وان يقفوا فوق السلالم للمطالبة بها لاثبات قدراته الخارقة علي التشخيص ووصف العلاج. هذا الانغلاق الذاتي والانفصال عن الواقع يعود إلي حالة مستعصية ومتقدمة لتضخم حاد في ال أنا حيث يري صاحبها انه الأكثر قدرة علي إصلاح مصر, ولديه الصفات القدرية الي جعلت الوطن ينتظر كل هذه السنوات, وربما العقود حتي يخرج الينا بإطلالته البهية, ليطرح الشعارات ويطلق الانتقادات والصرخات لعلها تفيد مع الشعب الذي ينتقد صفاته ويراه بعيدا عن الصورة التي يتمناها, ولو كان الأمر بيده لما تردد في طلب شعب آخر. ويمكننا ان نرصد أهم أعراض الأنا المتضخمة في اختصار القضايا والملفات والتحديات التي تواجه الحاضر والمستقبل وفي الداخل والخارج بما يحصل عليه شخصيا من مزايا والقاب ومناصب تظل دون مستواه باعتبار ان الطريق بات مفتوحا بموجب التعديلات الدستورية ليرشح نفسه لرئاسة الجمهورية, وان كان ذلك لا يمنعه من توجيه الانتقادات لتلك التعديلات رغما عن اتاحتها لمنافسه لم يكن احد يحلم بها. أما أسباب الإصابة بهذه الحالة المتقدمة من تضخم الذات فهي علي الارجح بسبب القاعات المغلقة التي تهييء لمن فيها بصدي الصوت ان التصفيق والهتاف يأتي من الملايين التي لا تشعر ولا تهتم بما يدور بينهم. يغيب عن هؤلاء ان كتاب الوطن يتضمن مقدمة اساسية تتحدث عن التاريخ السياسي وكيف تجاوزت مصرمراحل صراع التي كانت قائمة ومعروفة في حقب زمنية سابقة قبل أن تنضج تجربتها الوطنية لتكون المنافسة وليس الصراع المعيار المقبول في الممارسة الصحيحة داخل القنوات الشرعية والطبيعية والمعمول بها في جميع المجتمعات الديمقراطية ونعني بها الأحزاب. والغريب والمدهش والعجيب حقا أن الذين يذرفون الدموع علي الديمقراطية هم أول من ينهشون لحمها ويهدرون معاييرها ويستبيحون حرماتها فلا تجدهم يقيمون وزنا لاختلاف الرأي, ويمارسون التصنيفات المتوارثة من أزمنة الحزب الواحد, ومن السهل عليهم إطلاق الاتهامات بالعمالة والعجز والتبعية للدولة والحكومة عند أول محاولة للنقاش, والمطلوب فقط ولا غير الموافقة العمياء علي ما يقولونه ويفعلونه, وإلا.. لم نسمع او نر حراكا سياسيا يقودونه داخل الأحزاب التي تتسع دون شك لمختلف الاتجاهات والتيارات, وكان عليهم بدلامن التباكي علي حالة أحزاب المعارضة المسارعة باثراء اجوائها بالعمل الدءوب والتلاحم مع الجماهير, وبذل القليل من الجهد الميداني الذي يعد ألف باء العمل السياسي. ولم نسمع او نر حوارا خالصا لوجه الوطن لا تتضمن تطلعا شخصيا لهذا او ذاك من الوجوه اللامعة التي تتصور المسألة مهرجانا خطابيا للفوز بأكبر قطعة من تورتة الوطن. كنا نقول دائما ولانزال بأن مصر ليست في حاجة للاستعراضات وانما للعمل الوطني المخلص, وما أسهل العودة للحشود الشعبية التي تملأ الشوارع والميادين, ولكن التجربة الوطنية قد طوت تلك الصفحات وانتقلت بها إلي العمل الحزبي المدروس بعناية والذي يعالج القضايا الجماهيرية أولا وقبل اي شيء آخر. لم يعد الصراع مقبولا علي الساحة المصرية ولكن المنافسة المفتوحة بين الأحزاب لكي تدلي بدلوها وتطرح رؤيتها تجاه اجندة حافلة لوطن يسعي بكل جد واجتهاد حتي يصل لمكانته المستحقة بين الأمم المتقدمة. والأولوية لم تعد لمناقشة اسماء وشخصيات, وانما لملفات ملحة تطرح نفسها وتتطلب العمل من اجلها ونحن نلهث في سباق مع الزمن. العمل الوطني الذي تحتاجه مصر ونتحدث عنه كان حاضرا في خطاب الرئيس مبارك امام نواب الشعب, وتكفي نظرة سريعة علي مشروعات القوانين الي تحدث عنها الرئيس لتؤكد جدية المسار والمسئولية الملقاة علي عاتق مجلس الشعب لانجازها حتي يمكن الدفع بمؤشرات التنمية إلي المعدلات المرتفعة التي نتطلع اليها. جاء خطاب الرئيس درسا سياسيا علي أعلي مستوي حيث ركز علي قضايا الوطن الحقيقية, متحدثا عن ضرورة التصدي للبطالة من خلال الاستثمارات الداخلية والخارجية, وعلي الأهمية القصوي لتحقيق معدلات نمو مرتفعة. جاءت كلمات الرئيس لتعبر عن احاسيس ومشاعر وامال وتطلعات الشعب بأكمله بصرف النظرعن الانتماءات الحزبية الضيقة, وهكذا ايضا جاء حديثه الواضح والقاطع حول ثوابت الأمن القومي المصري في الداخل والخارج والتي لا تقبل المناقشة أو المزايدة عليها. والسؤال الآن.. هل شغلت تلك القضايا والملفات هؤلاء الغارقين في أحوالهم الذاتية واوضاعهم النضالية التي تريد العودة لمراحل سابقة من المراهقة السياسية؟ ماذا يعني لهم الدخول إلي عصر الاستخدام الامثل للطاقة النووية, وتوسيع مظلة التأمين الصحي لتغطي ملايين الأسر ورعاية غيرالقادرين. وإدارة الأصول المملوكة للدولة وتطوير الإدارة المحلية وغيرها من البنود الرئيسية في أجندة العمل في المرحلة المقبلة. هل في ذلك كله ما يشغل اهتمام ومتابعة الذين يرفضون التخلي عن منهج الصراع السياسي ويخاصمون الممارسة الصحيحة المنطلقة من برامج ودراسات متخصصة لا تخضع لأهواء ومصالح ضيقة؟ الاجابة من عندي هي بالنفي بكل أسف, وذلك لأن وجود هؤلاد يرتبط بأجندة أخري فشلت وسقطت وكانت تهدف إلي نشر الفوضي, وما نراه امامنا بقايا صورة تضاف إلي السجل الحافل بالقدرة الوطنية الفائقة والمذهلة علي اسقاط الأقنعة مهما تكن المهارة فيمن صنعها وفيمن يرتديها.