في أواخر السبعينيات من القرن الماضي شاع كتاب في علم السياسة عنوانه ضحايا التفكير الجماعي أوVictimsofGroupThink لمؤلفه أرفينج جانيس الذي كان أحد دارسي العلاقات الدولية المرموقين كان الكتاب في جوهره يقوم علي دراسة حالة الفشل الأمريكي فيما عرف فيما بعد بحملة خليج الخنازير الفاشلة; التي قامت فيها قوات أمريكية بغزو كوبا جنبا إلي جنب مع عناصر كوبية متمردة وانتهي الأمر إلي كارثة كبري بانسحاب هذه القوات وأسر بعضها دون تحقيق أي من أهدافها في الإطاحة بحكم فيديل كاسترو وجماعته الشيوعية. كان الأمر باختصار فضيحة كبري لدولة عظمي مما حدا بالباحث إلي البحث عن أسباب فشل تقدير دولة لديها كل أدوات اتخاذ القرار السليم والتقدير الملائم. فمع وجود مجلس للأمن القومي, ووزاراتين للدفاع والخارجية, وهيئات متعددة للمخابرات وجمع المعلومات, مع العشرات من مراكز التفكير والتقييم, فإن ارتكاب خطأ بمثل هذا القدر من الفداحة يدعو إلي التساؤل حول الكيفية التي يمكن بها حدوث هذه الكوارث وتكرارها. وكان الزمن في أول عهد الرئيس الأمريكي جون كنيدي في مطلع الستينيات, وكانت الحملة علي كوبا قد جري بحثها والإعداد لها في عهد الرئيس دوايت إيزنهاور الذي كان قائدا لقوات الحلفاء في أثناء الحرب العالمية الثانية ومن ثم فإنه كان ممثلا للخبرة العسكرية الأولي في الولاياتالمتحدة. ومع ذلك وقعت الواقعة رغم المراجعة والبحث من الإدارة الجديدة التي كان فيها بدورها خبرات متنوعة عالية التقدير في مجالاتها السياسية والإستراتيجية ذات العلاقة بالحملة علي كوبا انطلاقا من خليج الخنازير. وكانت النتيجة التي توصل لها صاحبنا هي أن وحدة صنع القرار في البيت الأبيض بما فيها رئيس الجمهورية كانت ضحية للتفكير الجماعي الذي يصل إلي مجموعة من الاستنتاجات والتصورات حتي تصير دينا شائعا يصعب الخروج عليه أو حتي طرح التساؤلات عنه. فقد ساد اعتقاد أن النظام الكوبي هش معنويا وأخلاقيا وماديا, وأن المتمردين الكوبيين لديهم من الصلابة والرغبة والاستعداد والتدريب ما يجعلهم يهزمون جماعة كاسترو الفاسدة والمستبدة بسهولة ويسر. كل ذلك وغيره لم يكن صحيحا ولم يكن هناك أحد علي استعداد للبحث عن الحقيقة التي كان الظن أنها ساطعة سطوع الشمس حتي ظهرت ساعة الهزيمة الكبري. هذه النوعية من التفكير الجماعي لها أصول في علم الاجتماع السياسي حول الظواهر الجماهيرية والكيفية التي ينتشر بها العنف والخوف في المجتمع. وفي مجال العلاقات الدولية تم تطببق نفس النظرية علي الهجوم الياباني علي بيرل هاربر وكيف جري استبعاد إمكانية حدوثه; كما تم التطبيق علي حوادث أخري كثيرة. شيء من هذا يجري الآن فيما يتعلق بالانتخابات المصرية الأخيرة من أجل انتخاب أعضاء مجلس الشعب حيث تكونت عقيدة واسعة أن هذه الانتخابات زورت نتيجة الفوز الكاسح للحزب الوطني الديمقراطي, والسحق الانتخابي الذي جري لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة, وتواضع النتائج التي حصلت عليها الأحزاب المدنية مثل الوفد والتجمع والناصري وغيرها وهم الذين اعتقدوا بإمكانية الحصول علي عدد كبير من المقاعد. هؤلاء جميعا مع خيبة الأمل بدأوا في رصد عمليات المخالفة التي جرت للعملية الانتخابية النزيهة, ومع رصها وراء بعضها البعض تكونت معزوفة كاملة للعنف والرشوة وتسويد البطاقات وتزوير الصناديق ومن ثم تكونت صورة من التفكير الجماعي تجعل تزوير الانتخابات حقيقة لا تقبل المناقشة أو التساؤل بمعني أنها تصير جزءا من الحياة العامة. المدهش في الأمر أن كثيرا مما ذكر صحيح, وبالفعل فإن اللجنة العليا للانتخابات أقرت بوجود مخالفات وصلت إلي1053 مخالفة كانت كافية لإلغاء الصناديق التي تمت بها, وأن حوادث شغب كبيرة بلغت16 حادثا جرت بالفعل في الانتخابات, بل إن بعضا من المخالفات أدي إلي إلغاء الانتخابات في دوائر بأكملها. المعضلة هنا أن من ذكروا هذه الوقائع لم يذكروا أبدا أنه جرت معالجتها والتعامل معها من قبل اللجنة العليا للانتخابات أو من قبل دوائر انتخابية مختلفة, كما أسقطوا من كل حساباتهم العدد الكلي الذي جرت وسطه هذه المخالفات.فلم يتم إلغاء1053 صندوقا ضمن44 ألف صندوق أي نحو2.3% من العدد الكلي, وهي مادام تم إلغاؤها فإنها لم تعد ذات بال بالنسبة لنتيجة الانتخابات. لم يتم إلغاء الانتخابات في أربع دوائر انتخابية من286 دائرة أو أقل من1.4% من عدد الدوائر, وعلي أية حال فإن الإلغاء سوف يعني إعادة الانتخابات في هذه الدوائر مرة أخري طبقا للقانون. وهكذا الحال في كل المعلومات الأخري, سواء ما تعلق بعدد الوفيات مقارنة بعددها في الانتخابات السابقة, أو ما تعلق بمحاولات اختراق اللجان. المسألة إذن أن الانتخابات المصرية ليست مثالية بحال; ولكنها أولا جزء من الحياة السياسية المصرية, وثانيا أنه في حالة المقارنة توضع الأمور في نصابها وتجعل الصورة المأخوذة عن الانتخابات لا تمت للحقيقة بصلة. ولكن المسألة التي غابت عن الجميع في شكل من الغياب العمدي قد كانت استعداد الحزب الوطني الديمقراطي للانتخابات, وما فعلته الأحزاب والجماعات المنافسة. فقد بدأ الحزب الوطني الاستعداد بمجرد انتهاء انتخابات عام2005 التي كانت مخيبة لآماله ومن ثم قام باختيار وزارة إصلاحية جديدة نجحت في تحقيق معدل نمو في المتوسط قدره6.4% خلال الخمس سنوات التالية. ومن بعده بدأ في عملية انقلاب داخل الحزب جعلت الشباب والمتعلمين هم أصحاب الأغلبية فيه ولديهم القدرة علي التصعيد إلي المستويات الأعلي, ووضع خطة متكاملة للعمل من أجل هزيمة الإخوان المسلمين باعتبارهم ليسوا منافسين انتخابيين وإنما أعداء للدولة المصرية في جوهرها المدني والحديث. علي الجانب الآخر فإن الأحزاب لم تفعل شيئا طوال السنوات الخمس الماضية سوي الشكوي من الحزب الوطني الديمقراطي, والصراع الداخلي فيها, وفي العام الأخير اختلط عليها الأمر فيما إذا كان عليها مقاطعة الانتخابات أو الدخول فيها. وعندما قررت دخول الانتخابات لم يكن الوقت قد مضي للاستعداد الجدي فقط, بل إن كل حزب أصبح مستعدا لملء أوراق ترشيحه بمن يهب عليه من أفراد مثلوا مطاريد لأحزاب, أو متقلبين بين الحزب الوطني ومن وجدوا من الأحزاب. وكان ذلك واضحا في أحزاب عريقة مثل حزب الوفد التي بدا أحيانا أنها سوف تكون لديها القدرة علي إدارة معركة انتخابية علي قدر من الكفاءة, ولكن اختياراتها كانت وقتي, وحسب ما هو متاح من الظروف وفي الأسابيع الأخيرة من الانتخابات. العجيب في الأمر أن مثل هذه العجلة كانت تجري في الأحزاب المختلفة, ولم يكن أحد علي استعداد لتذكر كيف كان الحزب الوطني الديمقراطي هو الحزب الوحيد الذي بدأ المعركة مبكرا من خلال انتخابات تمهيدية, واكبتها استطلاعات منظمة للرأي, ومعها اختيارات للمجمع الانتخابي من قيادات الحزب حيث بات ممكنا رسم إستراتيجية متكاملة لامتصاص مناطق التأييد للخصوم ومنح مرشح الحزب الفرصة للفوز. ولم تكن الفوضي فقط عنوان الأحزاب, لكنها تسربت إلي جماعة الإخوان المحظورة التي عانت من التحول من تيار معتدل نسبيا إلي تيار محافظ ومغرق في محافظته, والتحول من تنظيم يجوز فيه بعض من النقاش إلي تنظيم قائم علي السمع والطاعة بينما لا توجد خبرة من أي نوع لمن في يدهم سلطة القرار. وكانت النتيجة اختيارات واهنة لمرشحين ليسوا من دوائرهم, ومرشحين عادوا لتوهم من جمع الأموال من الدول العربية البترولية, وغير ذلك كثير. المهم أن شيئا من ذلك لم يتم السؤال عنه, ولم يبق إلا ضحايا للتفكير الجماعي الذي ما لبث أن تسرب إلي الدوائر الصحفية والإعلامية العالمية ومنها عاد مرة أخري إلي داخل البلاد لكي يؤكد صورة كانت زائفة من الأصل ولا وجود لها. إنها حالة ضحايا التفكير الجماعي العاجز عن طرح التساؤلات أو المقارنات التي تجعل إظهار وجه الحقيقة ممكنا. [email protected]