كنا قد وعدناكم في نهاية مقالنا السابق( الإخوان ينسحبون.. والأمريكان يعترضون.. من يحرك من؟!), بأن نكشف بالوثائق عن تفاصيل علاقة الإخوان بواشنطن, وتطور تلك العلاقة المريبة حتي وقتنا الراهن وها نحن نفي بالوعد, واليوم نبدأ حلقات هذه السلسلة, التي نأمل في أن تلقي الضوء علي بعضا من تفاصيل تلك العلاقة الملتبسة بين الطرفين, والتي وصلت إلي حد بناء أكبر فرع للجماعة في بلاد العم سام, في الوقت الذي تقوم فيه قوات المارينز بمطاردة كل التيارات الإسلامية في العالم. البدايات: بدأت علاقة الإخوان المسلمين بأمريكا بعد المواجهة التي حدثت بين الجماعة والثورة في عام1954 والتي كانت بسبب رغبة الجماعة في السيطرة علي القادة الجدد واختطاف الثورة لصالح الجماعة. كانت الجماعة تعيش في بداية الثورة حالة من الوفاق مع قادتها خصوصا بعد استثناء الجماعة من قرار حل الأحزاب السياسية والذي ساهم في تنامي شعور الجماعة بالقوة, و أدي بعد ذلك الي الصدام. الأسباب الحقيقية للصدام يرويها البكباشي جمال عبد الناصر في قرار حل الجماعة, الذي صدر في14-1-1954. والذي يؤكد فيه أن: ' نفرا من الصفوف الأولي في هيئة الاخوان أرادوا أن يسخروا هذه الهيئة لمنافع شخصية واطماع ذاتية مستغلين سلطان الدين علي النفوس وبراءة وحماسة الشبان المسلمين ولم يكونوا في هذا مخلصين لوطن أو لدين. ولقد أثبت تسلسل الحوادث ان هذا النفر من الطامعين استغلوا هيئة الاخوان والنظم التي تقوم عليها هذه الهيئة لاحداث انقلاب في نظام الحكم القائم تحت ستار الدين. ويوضح جمال عبد الناصر في متن قرار الحل, التفصيلات التي أدت الي وصول العلاقة بين الطرفين الي طريق مسدود, والتي دفعت مجلس قيادة الثورة الي اتخاذ مثل هذا القرار بالقول:' ولقد سارت الحوادث بين الثورة وهيئة الاخوان قد جرت بالتسلسل الآتي: 1 في صباح يوم الثورة استدعي الاستاذ حسن العشماوي لسان حال المرشد العام إلي مقر القيادة العامة بكوبري القبة وابلغ اليه ان يطلب من المرشد العام اصدار بيان لتأييد الثورة ولكن المرشد بقي في مصيفه بالاسكندرية لائذا بالصمت فلم يحضر إلي القاهرة الا بعد عزل الملك ثم اصدر بيانا مقتضبا طلب بعده أن يقابل أحد رجال الثورة فقابله البكباشي جمال عبدالناصر في منزل الاستاذ صالح أبورقيق الموظف بالجامعة العربية وقد بدأ المرشد حديثه مطالبا بتطبيق أحكام القرآن في الحال فرد عليه البكباشي جمال عبدالناصر بأن هذه الثورة قامت بحرب علي الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي والاستعمار البريطاني وهي بذلك ليست إلا تطبيقا لتعاليم القرآن الكريم. فانتقل المرشد بالحديث إلي تحديد الملكية وقال ان رأيه أن يكون الحد الأقصي 500 فدان. فرد عليه البكباشي جمال قائلا ان الثورة رأت التحديد بمائتي فدان فقط وهي مصممة علي ذلك فانتقل المرشد بالحديث قائلا أنه يري لكي تؤيد هيئة الاخوان الثورة أن يعرض عليه أي تصرف للثورة قبل اقراره فرد عليه البكباشي جمال قائلا ان هذه الثورة قامت بدون وصاية احد عليها وهي لن تقبل بحال أن توضع تحت وصاية أحد وان كان هذا لا يمنع القائمين علي الثورة من التشاور في السياسة العامة مع كل المخلصين من أهل الرأي دون التقيد بهيئة من الهيئات ولم يلق هذا الحديث قبولا من نفس المرشد. 2 سارعت الثورة بعد نجاحها في اعادة الحق إلي نصابه وكان من أول أعمالها أن أعادت التحقيق في مقتل الشهيد حسن البنا فقبضت علي المتهمين في الوقت الذي كان المرشد لا يزال في مصيفه في الاسكندرية. 3 طالبت الثورة الرئيس السابق علي ماهر بمجرد توليه الوزارة بأن يصدر عفوا شاملا عن المعتقلين والمسجونين السياسيين وفي مقدمتهم الاخوان وقد نفذ هذا فعلا بمجرد تولي الرئيس نجيب رئاسة الوزارة. 4 حينما تقرر اسناد الوزارة إلي الرئيس نجيب تقرر أن يشترك فيها الاخوان المسلمون بثلاثة أعضاء علي ان يكون احدهم الاستاذ الشيخ أحد حسن الباقوري. وقد تم اتصال تليفوني بين اللواء عبدالحكيم عامر والمرشد ظهر يوم7 سبتمبر سنة1952 فوافق علي هذا الرأي قائلا إنه سيبلغ القيادة بالاسمين الآخرين ثم حضر الاستاذ حسن العشماوي إلي القيادة في كوبري القبة وابلغ البكباشي جمال عبدالناصر بأن المرشد يرشح للوزارة الأستاذ منير الدلة الموظف في مجلس الدولة والاستاذ حسن العشماوي المحامي وقد عرض هذا الترشيح علي مجلس الثورة فلم يوافق عليهما, وطلب البكباشي جمال عبدالناصر من الاستاذ حسن العشماوي ان يبلغ ذلك إلي المرشد ليرشح غيرهما وفي الوقت نفسه اتصل البكباشي جمال بالمرشد فقال الاخير انه سيجمع مكتب الارشاد في الساعة السادسة ويرد عليه بعد الاجتماع. وقد أعاد البكباشي جمال الاتصال مرة أخري بالمرشد فرد عليه أن مكتب الارشاد قرر عدم الاشتراك في الوزارة فلما قال له: لقد اخطرنا الشيخ الباقوري بموافقتك وطلبنا منه أن يتقابل مع الوزراء في الساعة السابعة لحلف اليمين أجابه بأنه يرشح بعض أصدقاء الاخوان للاشتراك في الوزارة ولا يوافق علي ترشيح أحد من الاخوان. وفي اليوم التالي صدر قرار من مكتب الارشاد بفصل الشيخ الباقوري من هيئة الاخوان فاستدعي البكباشي جمال عبدالناصر الاستاذ حسن العشماوي وعاتبه علي هذا التصرف الذي يظهر الاخوان بمظهر الممتنع عن تأييد وزارة الرئيس نجيب وهدد بنشر جميع التفاصيل التي لازمت تشكيل الوزارة فكان رد العشماوي أن هذا النشر يحدث فرقة في صفوف الاخوان وليس لموقف المرشد العام ورجاه عدم النشر. 5 عندما طلب من الاحزاب أن تقدم اخطارات عن تكوينها قدم الاخوان اخطارا باعتبارهم حزبا سياسيا وقد نصحت الثورة رجال الاخوان بألا يترددوا في الحزبية ويكفي أن يمارسوا دعوتهم الاسلامية بعيدا عن غبار المعارك السياسية والشهوات الحزبية وقد ترددوا بادئ الأمر ثم استجابوا قبل انتهاء موعد تقديم الاخطارات وطلبوا اعتبارهم هيئة وطلبوا من البكباشي جمال عبدالناصر أن يساعدهم علي تصحيح الأخطاء فذهب إلي وزارة الداخلية حيث تقابل مع المرشد في مكتب الاستاذ سليمان حافظ وزير الداخلية وقتئذ وتم الاتفاق علي أن تطلب وزارة الداخلية من الاخوان تفسيرا عما اذا كانت أهدافهم سيعمل علي تحقيقها عن طريق اسباب الحكم كالانتخابات وان يكون رد الاخوان بالنفي حتي ينطبق عليهم القانون. 6 وفي صبيحة يوم صدور قرار الاحزاب في يناير سنة 1953 حضر إلي مكتب البكباشي جمال عبدالناصر الصاغ صلاح شادي والاستاذ منير الدلة وقالا له الآن وبعد حل الأحزاب لم يبق من مؤيد للثورة الا هيئة الاخوان ولهذا فانهم يجب أن يكونوا في وضع يمكنهم من أن يردوا علي كل اسباب التساؤل فلما سألهما ما هو هذا الوضع المطلوب أجابا بأنه يريدن الاشتراك في الوزارة فقال لهما اننا لسنا في محنة واذا كنتم تعتقدون أن هذا الظرف هو ظرف المطالب وفرض الشروط فأنتم مخطئون فقالوا له اذا لم توافق علي هذا فاننا نطالب بتكوين لجنة من هيئة الاخوان تعرض عليها القوانين قبل صدورها للموافقة عليها وهذا هو سبيلنا لتأييدكم ان أردتم التأييد فقال لهم جمال لقد قلت للمرشد سابقا اننا لن نقبل الوصاية وإنني أكررها اليوم مرة أخري في عزم وإصرار. وكانت هذه الحادثة هي نقطة التحول في موقف الاخوان من الثورة وحكومة الثورة. اذ دأب المرشد بعد هذا علي اعطاء تصريحات صحفية مهاجما فيها الثورة وحكومتها في الصحافة الخارجية والداخلية كما كانت تصدر الأوامر شفهيا إلي هيئات الاخوان بأن يظهروا دائما في المناسبات التي يعقدها رجال الثورة بمظهر الخصم المتحدي. 7 لما علم المرشد بتكوين هيئة التحرير تقابل مع البكباشي جمال في مبني القيادة بكوبري القبة وقال له انه لا لزوم لإنشاء هيئة التحرير ما دام الاخوان قائمين فرد عليه البكباشي جمال ان في البلاد من لا يرغب في الانضمام للاخوان وان مجال الاصلاح متسع امام الهيئتين فقال المرشد انني لن أؤيد هذه الهيئة وبدأ منذ ذلك اليوم في محاربة هيئة التحرير واصدار أوامره بإثارة الشغب واختلاق المناسبات لإيجاد جو من الخصومة بين ابناء الوطن الواحد. 8 وفي شهر مايو سنة 1953 ثبت لرجال الثورة أن هناك اتصالا بين بعض الاخوان المحيطين بالمرشد وبين الانجليز عن طريق الدكتور محمد سالم الموظف في شركة النقل والهندسة وقد عرف البكباشي جمال من حديثه مع الاستاذ حسن العشماوي في هذا الخصوص أنه حدث اتصال فعلا بين الاستاذ منير الدلة والاستاذ صالح ابورقيق ممثلين عن الاخوان وبين مستر ايفانز المستشار الشرقي للسفارة البريطانية وان هذا الحديث سيعرض حينما يتقابل البكباشي جمال والمرشد وعندما التقي البكباشي جمال مع المرشد أظهر له استياءه من اتصال الاخوان مع الانجليز والتحدث معهم في القضية الوطنية, الأمر الذي يدعو إلي التضارب في القول واظهار البلاد بمظهر الانقسام. بعد حل الجماعة تحرك نظامها الخاص لاغتيال ناصر في حادثة المنشية الشهيرة والتي انتهت بالفشل وتصاعد المواجهة بين الثورة والجماعة, اعتقل الآلاف من كوادر الجماعة وتم فصل البعض من أشغالهم, وهرب الكثيرون واختفوا, وكان الخيار الأفضل للكثير من اعضاء الجماعة هو السفر لأي دولة خارج مصر خصوصا الدول النفطية مثل السعودية والتي كانت علي خلاف في هذا الوقت مع نظام عبدالناصر, ومنهم من اختار السفر للغرب وخصوصا اوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية, وهناك كونوا روابط اخوانية وحاولوا البقاء متماسكين حتي تتضح الصورة في مصر وتظهر الجماعة من جديد, وسنحاول في هذه الحلقات عرض مراحل تطور الجماعة في الولاياتالمتحدةالأمريكية تحديداي, حتي وقتنا هذا. ولكن لماذا الولاياتالمتحدةالأمريكية؟! كانت الولاياتالمتحدة في فترة الخمسينات تمثل حلما وبريقا لبعض القوي, خاصة الإسلامية منها, وكانت تعد نفسها لوراثة الاستعمار القديم المتمثل في إنجلترا وفرنسا, وتعاني منافسة حادة من الاتحاد السوفيتي الذي أخذ يسيطر وينشر أفكاره في منطقة الشرق الأوسط, ووسط حركات التحرر الوطني بشكل عام, الأمر الذي استنفر الأمريكان, واخذوا في البحث عن قوي يمكن الإعتماد عليها في كسر شوكة قوي التحرر, من ناحية, والوقوف ضد تمدد نفوذ موسكو من ناحية أخري, وسرعان ما وجدوا ضالتهم في حركة الإخوان المسلمين. كانت الجماعة ومعها عدد من المفكرين الإسلاميين, يعتبرون الاشتراكية كفرا بواحا, ومن ينادي بها كفار يستحل دمهم. الأمر الذي أدي الي مواجهات متعددة بين أنظمة وقوي التحرر الوطني الناشئة, سواء تلك الحاكمة, كثوار يوليو, أو تلك التي تسعي الي تحرير بلادها من ربقة المستعمر, كما عدد من بلدان المشرق العربي. كل هذه العوامل أدت الي ازدياد موجات هجرة الإسلاميين الي الغرب بشكل عام, والولاياتالمتحدة بشكل خاص, هربا من تلك المواجهة. كانت في الأغلب الأعم تلك الهجرات منظمة, بمعني أن هناك جهات عديدة تابعة لتلك الحركات, وفي القلب منها حركة الإخوان المسلمين, كانت تشرف علي هجرة هؤلاء الشباب, ثم تقوم بإعادة تجميعهم, لتصفهم في صفوف منظمة, تصب في بوتقة واحدة. وهو ما حدث بالفعل في يناير1963, عندما تكون' اتحاد الطلبة المسلمين في الولاياتالمتحدةالأمريكية وكندا' وهو أول كيان يجمع الشباب المنتمين الي حركة الإخوان في أمريكا. وهو ما سنتحدث عنه وعن مسيرته تفصيليا في الحلقات القادمة إن شاء الله, فإلي لقاء.