كنت دائما من الذين تربوا إعلاميا علي ال بي بي سي, كنت أحرص دوما علي متابعة الأخبار منذ بدأت الاهتمام بها منذ إنشائها علي صوت مديحة المدفعي, ذلك الصوت الذي كان العلامة المميزة لها. تطورت علاقتي بال بي بي سي كما حدث فيما أظن مع الكثيرين واعتبرتها مدرسة مهمة, بل قد تكون هي الأهم في الإعلام, خاصة بعدما بدأت متابعة ال بي بي سي العالمية, ومحطات ال بي بي سي في بريطانيا أثناء إقامتي بها, وحضرت تجربة إطلاق تلفزيون ال بي بي سي العربي الأولي في منتصف التسعينات, وهي التجربة التي لم تستمر لأسباب تتعلق بالتضارب بين مصالح أصحاب المال في ذلك الوقت- الذين كانوا يمولون المحطة- وبين قيم ال بي بي سي. عندما حدث ذلك الصدام كانت قيم ال بي بي سي هي الأعلي, فوق المال وفوق العلاقات وكانت انتصارا لمفهوم القيم الإعلامية, والوصول للمهنية التي لم تتردد ال بي بي سي ولو ذرة وقتها في الدفاع عنها حتي لو كان الثمن إغلاق المحطة. ظلت ال بي بي سي بالنسبة لي هي مدرسة الحرفية والموضوعية, وكنت دوما أستخدم مفهوم القيم التحريرية وأستحضر ال بي بي سي فيما ترسخه وتعلمه للعاملين فيها وتلزمهم به, وعندما ظهر تلفزيون ال بي بي سي العربي مرة أخري كنت أتوقع وأتمني بأن ال بي بي سي بقيمها وحرفيتها التي تعلمنا منها تعود إلي الساحة العربية التلفزيونية, ولكن فيما يبدو فإن الأجواء لم تكن هي الأجواء المواتية لتجربة مهنية حرفية تضاف الي رصيد هيئة الإذاعة البريطانية, فقد خرجت المحطة الوليدة لا العريقة في أجواء محطات أخري اعتمدت التسخين و اللا موضوعية والانحياز طريقا, وأراد القائمون علي القناة الوليدة لا العريقة أن ينافسوا القائم, فقرروا التخلي عن تلك القيم العريقة فبدت وكأنها محطة وليدة تحارب للوجود بين قنوات الصوت العالي. أدرك القائمون الكبار علي الهيئة العريقة خطأ ما حدث عند إطلاقها, فبدأوا في وضع الأمور في نصابها مرة أخري, وظل الأمر كذلك لفترة, ولكن يبدو أن الرغبة الملحة لدي القائمين علي القناة الوليدة لا العريقة الناطقة بالعربية في أن يكسبوا في سباق الفضائيات حتي لو كان علي حساب القيم العريقة, وظهر هذا واضحا في تغطيتهم لمرحلة ما قبل الانتخابات في مصر. مراسلو القناة الوليدة لا العريقة التي تنتمي لهيئة الإذاعة البريطانية تناسوا التقاليد العريقة الحاكمة للمهنة والتي أكسبتها ذلك الرصيد من المصداقية لدي مختلف شعوب الأرض بلغاتها المتعددة, مراسلوها يبدءون في كتابة تقريرهم محددين اتجاهه من البداية, ويضعون فيه المقاطع الصوتية التي تخدم الإتجاه والموقف الذي قرروا تبنيه في تقاريرهم. وآخر النماذج التي شاهدتها ذلك التقرير عن الرقابة الدولية علي الانتخابات التي أجمعت القوي السياسية جميعها علي رفضها, لتخرج القناة الوليدة لا العريقة بتقرير مراسلها من البداية وحتي النهاية إلا بكلمة علي استحياء بتأكيد بأن الحكومة والحزب الحاكم هم من يرفضون الرقابة الدولية و يأتي بمقاطع صوتية لتؤكد وجهة نظره, ليصل في النهاية إلي التأكيد المبطن علي أن التزوير في الانتخابات قادم قادم. عدت إلي القيم التحريرية لهيئة الإذاعة البريطانية والتي تنشرها علي مواقعها وتعلم العاملين فيها الالتزام بها, ويتعلم منها من الإعلاميين من يريد أن يكون محترفا لأقرأ من بين ما فيها الجزء الخاص عن الدقة والمصداقية. لم يكن يبنغي علي القائمين علي القناة التلفزيونية العربية لل بي بي سي أن ينقادوا وراء الرغبة في التنافس علي الوجود بأي ثمن حتي لو كان هذا الثمن هو الإطاحة بالقيم المهنية لل بي بي سي التي هي أهم ملامحها. ويقول المثل العربي' تجوع الحرة.. ولا تفرط في قيمها'.