يشهد العالم منذ عقد من الزمان تغيرات هائلة طالت جميع جوانب الحياة علي كوكب الارض, غير أن ما يعنينا موضوع التربية المدنية من تلك التغيرات عنصران مهمان الاول: التطور الهائل لوسائل الاتصال وانتقال الافكار والمعارف والثقافات بل والاموال والسلع والخدمات بسرعة هائلة عبرالقارات والحدود وهو مايحمل في طياته لو احسن الاستفادة منه فرصا واعدة بتعظيم المعارف والقدرات والامكانات, وتعدد البدائل والحلول للعديد من المشكلات الوطنية, التي تعانيها الكثير من دول العالم. اما العنصر الثاني من تلك المتغيرات فهو حتمية الديمقراطية, ليس باعتبارها غاية للشعوب والافراد, وانما باعتبارها في نفس الوقت وسيلة للتعامل مع العصر بامكانياته الهائلة وفرصه المتعددة, ومخاطره الكبيرة ايضا. ان احد أهم الدروس المستفادة من انهيار الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي, وفي دول شرق اوروبا, هو أن الانسان لم يعد يستطيع أن يستبدل الأمن والحماية والغذاء بالديمقراطية, بل أصبح ذلك الانسان يري ان الديمقراطية هي الكفيلة بتحقيق الامن والحماية والغذاء ومعهم الكرامة الانسانية والحرية التي لاسبيل إلي المقايضة عليها بأي ثمن. ويبقي السؤال: ما هو موقف التعليم من تلك المتغيرات ؟.. والحقيقة ان التعليم في جميع انحاء العالم نشاط محافظ بطبعه, فالمدرسة تسعي للحفاظ علي تراث المجتمع وقيمه وعاداته, وتكرس البناء الاجتماعي, وتعيد انتاج المجتمع من جديد, ولم يعرف العالم بعد تعليما يعد الانسان للتمرد علي الواقع أو تغيره ويحاول التعليم المصري الاستجابة لتلك المتغيرات بتجديد الكثير من عناصره وتطويرها, فقد اصبح الكمبيوتر والانترنت معروفا في آلاف المدارس, وتساهم شبكة' الفيديو كونفرانس'videoconfrance في تحقيق الاتصال المباشر بين وزارة التعليم والمعلمين من مختلف انحاء البلاد. كما تسعي وزارة التعليم إلي ادخال العديد من المفاهيم الحديثة إلي مناهج التعليم ومقرراته, ومن تلك المفاهيم, حقوق الانسان, عدم التمييز ضد المرأة, التسامح, نبذ التطرف والتعصب, المواطنة, وغيرها من المفاهيم اصبحت من اهم مفردات الحياة المعاصرة. ولكن رغم ذلك تظل الاعداد الهائلة من الطلاب, والتنافس في سبيل الحصول علي أعلي الدرجات بحثا عن موطئ قدم داخل الجامعة, عقبة كئود في سبيل أن تحدث تلك التطورات فعلها في بنية التعليم وفي ثقافته. ومن هنا ظهرت فلسفة التربية المدنية, التي تسعي لمساعدة المدرسة علي الاستجابة للمتغيرات التي سبقت الاشارة إليها. وتسعي في نفس الوقت إلي مواجهة انعزال الطلاب عن تيار الحياة المتدفق تحت وطأة الحصول علي شهادة باعتبارها غاية وحيدة للتعليم. والتربية المدنيةCivecEducation هي مجموعة من الانشطة التعليمية والتربوية تحتوي الجوانب الثلاثة المعروفة للتربية: الجانب المعرفي والجانب الوجداني والجانب المهاري والسلوكي, من خلال تفاعل حي ونشط مع مشكلات المجتمع بمعناه العام ودوائره المختلفة: المحلية والوطنية والقومية والعالمية. ففي الجانب المعرفي, تتعامل التربية المدنية مع مشكلات اجتماعية عديدة مثل الفقر والتمييز بين الناس علي أساس اللون أو العنصرأو الجنس أو الدين, كما تهتم التربية المدنية بشكل خاص بمشكلة انخفاض مستوي المشاركة السياسية بين الشباب باعتبار أن سلبية الشباب وعزوفهم عن المشاركة السياسية والمشاركة الاجتماعية بوجه عام هو حصان طروادة الذي تتسرب منه الكثير من العلل والامراض المجتمعية المزمنة, وتلك السلبيةهي التي تمد في عمر الفقر والبؤس والتطرف. ومن هنا تلعب الثقافة الدستورية والممارسة الديمقراطية دورا محوريا في أنشطة التربية المدنية. والتي تسعي إلي تحويل جماعات التربية المدنية إلي صورة مصغرة من المجتمع الكبير الذي ينبغي أن يسوده دستور فاعل ومحترم, اما في الجانب الوجداني, فتهدف التربية المدنية إلي خلق اتجاهات ايجابية نحو الديمقراطية والمشاركة السياسية وحقوق الانسان والعدل وسيادة القانون وحرية الرأي والفكر والعقيدة, وعدم التمييز بين الناس علي أسس دينية أو عرقية أو جنسية أو طبقية, بالاضافة إلي تعزيز الشعور بوحدة المصير الانساني انطلاقا من أننا جميعا ننتمي بنفس الدرجة إلي أسرة انسانية واحدة تتنوع بينها الثقافات والحضارات. وعلي الجانب المهاري: تستهدف التربية المدنية تعزيز مهارات فريق العمل بين الطلاب وبعضهم البعض, وبين الطلاب والمعلمين, وتعزيز مهارات الطلاب في بحث مشكلات واقعهم علي اسس علمية وميدانية, وتعزيز مهارات جمع المعلومات والاتصالات بمراكز صنع القرار واقتراح البدائل والسعي لتنفيذ الحلول المقترحة والتفاعل الايجابي مع مشكلات المجتمع بشكل عام من خلال تحطيم الاسوار التي تعزل المدرسة عن مجتمعها المحلي, كما تهدف إلي تعزيز مهارات العمل التطوعي والتعاون مع الجمعيات الأهلية ومختلف مؤسسات المجتمع الحكومية والأهلية علي السواء. وينبغي في النهاية أن نؤكد ان التربية المدنية في جميع انشطتها وجهودها تستهدف ترسيخ المباديء التالية: التربية المدنية ليست مجرد نشاط مدرسي ينتهي بانتهاء اليوم الدراسي, وانما هي اسلوب حياة متكامل يستهدف تسليح الفرد بالمعارف والانشطة والمهارات التي تجعله اكثر قدرة وفاعلية في قيادة التغير نحو المجتمع الامثل. لا تهتم التربية المدنية بالدعاية النظام سياسي محدد ولاحزب سياسي معين, ولا تدعو إلي ايديولوجية صارمة, وانما تتعامل مع مفردات الحياة السياسية من أجل تعزيز المشاركة والانتماء الوطني والانساني لدي الطلاب, ويبقي بعد ذلك ان يختار الطلاب في ضوء قناعاته الفردية اتجاه تلك المشاركة. تحترم التربية المدنية جميع الديانات والعقائد, وتهتم بتعزيز القيم الروحية والخلقية, التي تنادي بها الأديان جميعا, ولكنها في نفس الوقت لا تنطلق من منطلقات دينية ولا تستهدف تحقيق غايات دينية. والتربية المدنية تعتمد في منطلقاتها فلسفة المجتمع المدني, وتعتمد في آلياتها مباديء الديمقراطية, ولذلك فهي ترفض وتعارض جميع أساليب التربية والتدريب العسكري. واخيرا ينبغي التأكيد علي ان التربية المدنية ليست صيغة نهائية وانما هي انشطة متنوعة ولانهائية, تهتم بأن يأخذ الطلاب بأيديهم المبادرة في تحديد أولويات المشاكل المحلية والوطنية والدولية, وأولويات وسائل التعامل مع تلك المشكلات, ومن ثم فالتربية المدنية نشاط انساني عريض يستفيد من جميع الخبرات الانسانية ويضيف إليها في نفس الوقت. [email protected]