.. كل هذا لا ينفي أنه وجدت فترات وقعت خلالها أحداث شغب وصدام بين المسلمين والمسيحيين أو غيرهم, لكنها لم تستمر طويلا, والملاحظ أنها ارتبطت بفترات التخلف والكساد والتسلط من الحكام أو السلطة الدينية, أما حالات الازدهار أو خلال تعرض الوطن لما يضيره من هجمات او استعمار أو كوارث, فإن المصري دائما يرتبط بوطنه ومواطنيه قبل كل شيء, فهو يذهب للحرب والدفاع ويموت ليس لأنه مسلم أومسيحي.. ولكن لأنه مصري. السطور السابقة اجتزأتها من الصفحات الأخيرة من كتاب.. التراث المسيحي الإسلامي للدكتورة ليلي تكلا الصادر أخيرا عن دار الشروق, وهو كتاب جاء في وقته تماما, ليس فقط بسبب استمرار المناخ المعادي لتقاليد الوحدة الراسخة بين أقباط مصر ومسلميها, بل أيضا لأن المؤلفة وضعت في اعتبارها عدة قضايا رئيسية بدونها سيكون الحوار حوار طرشان كما يقول الشوام. وفي مقدمة هذه القضايا ان الحوار المشترك ليس من شأنه اقناع أحد الطرفين بمعتقدات الطرف الآخر, بل تقبل واحترام تلك المعتقدات, وقبول التنوع, لأن الإيمان قضية خاصة جدا بين الإنسان وخالقه. وتنقل د. تكلا, وهي القبطية المصرية عن د. احمد الطيب شيخ الأزهر دعوته الي ضرورة اقصاء العقائد الدينية اقصاء كليا من مجال الحوار أو المصالحة أو الإصلاح, ويحدد العقائد الدينية بأنها تلك التي يختلف بها هذا الدين عن ذاك, وتجعل من المؤمنين بها إما يهودا أو مسيحيين أو مسلمين. هذه العقائد دوائر مغلقة علي أصحابها المؤمنين بها, ويجب أن تكون محل احترام متبادل بين الجميع, وهي لن تكون أبدا محل إيمان أو اعتراف متبادل بين أتباع الأديان, أو تعديل لمصالحة طرف آخر ويضيف: الأمر الوحيد المقبول في الحوار هو وجوب أن يحترم كل طرف عقيدة الآخر, ويسلمها له, وإن لم يؤمن بها الطرف المقابل. والحال أن الجهد المخلص الذي قدمته د. تكلا في كتابها كما أكدت مرارا وتكرارا ليس مناظرة بين جانبين, إنه ببساطة دعوة للفهم المشترك والاحترام المتبادل, ولكل الحق في التمسك بما يؤمن به مع احترام إيمان الآخر وحقه في الاختلاف. وقبل أن أواصل عرض القضايا التي أولتها د. تكلا عنايتها, أود أن أشير الي أنه من بين مآثر هذا الكتاب انه مكتوب للقاريء العام لا المتخصص, وهو ما نحتاجه بشدة, ولن أضيف جديدا عندما أقول إن قسما لا يستهان به من الرأي العام قد تم الاستيلاء عليه من المتطرفين من الجانبين, وما نحتاجه حقا هو استعادة القاريء العام. ومن بين مآثره أيضا إدراك الكاتبة ان القضية سياسية وليست دينية, وهو ما أكدت عليه طوال صفحات الكتاب تقريبا, ليس هناك خلاف ديني, ولم يعرف التاريخ حروبا دينية الا في عصور الهمجية والتوحش, وحتي الحرب التي شنتها الولاياتالمتحدة ضد القاعدة واحتلت بسببها افغانستان ليست حربا دينية, بل حرب سياسية, وهي حقيقة لا تحتاج لإثبات. فالصليبيون علي سبيل المثال, الذين حاربوا تحت راية الصليب, كانوا يحاربون لأهداف سياسية مهما ادعوا بغير ذلك, ويمكن باطمئنان شديد تأكيد هذه الحقيقة من خلال عشرات الأمثلة والحروب القديمة والجديدة علي السواء. اختارت د. تكلا أن تناقش قضاياها من خلال جزءين رئيسيين, الأول في مسألة السلام والصدام. والثاني التراث المسيحي الإسلامي المشترك فضلا عن ستة ملاحق في آخر الكتاب. وفيما يتعلق بالجزء الأول تؤكد الكاتبة أنه في أعقاب انفراد الولاياتالمتحدة بالسيادة العسكرية علي العالم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي, اندلعت القلاقل والحروب والفوضي, وخرجت نظريات جديدة تبشر بالصراع الديني وتحديدا بين الإسلام والمسيحيين. وفي هذا السياق تناقش ما يثار حول الثقافة اليهودية والمسيحية مشيرة بوضوح لا لبس فيه إلي أن ذلك التعاطف الذي يبديه بعض المسيحيين في الغرب للصهيونية جاء وانتشر من أجل قيام واستمرار دولة اسرائيل, أي لأسباب سياسية واستراتيجية واستغل ما تعرض له بعض اليهود مع غيرهم علي يد النازية وتضيف إنه اتجاه سياسي بحت يستخدم لدعم ومساندة اسرائيل. وتضيف أيضا أن هذا الاتجاه يتصل في المقام الأول بمصالح الولاياتالمتحدة الاستراتيجية والاقتصادية والعسكرية والانتخابية, وهذه المصالح قد يدور حولها صراع بل صراعات, أما المعتقدات الدينية فهي في جوهرها دعوة للسلام وللتعايش واحترام التعدد. وعندما تتعرض لنظرية هنتنجتون التي تقوم علي ثنائية الصراع بين حضارات الشرق والغرب, وبين المسيحية والاسلام, تؤكد ان الحضارات لا ديانة لها, وحضارة الغرب ليست مسيحية كما يحاول البعض الترويج دون سند من الحقيقة, بل هي حضارة مادية قامت علي أسس الرأسمالية, والمسيحية ليست غربية فقط, وهناك مسيحيون عرب يعتزون بالهوية العربية, وكان لهم دور في اثراء الحضارة العربية حتي قبل الإسلام مثل حاتم الطائي وامرؤ القيس وقيس بن ثعلبة وزهير بن أبي سلمي والمهلهل بن ربيعة وطرفة بن العبد, كما أن الأخطل ويحيي بن عدي العباسي كانا شاعرين مسيحيين. وفي هذا السياق تنقل عن البابا شنودة قوله إن الغرب له مصالح في العالم الإسلامي.. أرض البترول الذي تعتمد عليه الحضارة الغربية.. هي السوق الواسعة للمنتجات الغربية التي تنقل ثروات العالم الاسلامي الي الغرب والتاريخ القديم والحديث حلقات من تاريخ الصراع بين الغرب والعالم الإسلامي, ليس صراع عقائد وليس صراع ديانات وليس صراع حضارات ولا ثقافات ولكنه صراع مصالح.. مصالح الغرب مرتبطة ببقاء العالم الإسلامي منقسما وجاهلا ومنشغلا بصراعاته الداخلية ومرفوضا.. وعندما تأتي الكلمات السابقة من رجل دين, ومن البابا شنودة تحديدا, فهذا يعني أن الحوار بين الأقباط والمسلمين, وبين الغرب والعالم الإسلامي, يجب أن ينتقل الي مستوي جديد, يتناقض تماما مع الأفكار السطحية والشائعة حول الصراع الديني. واذا كانت المؤلفة بحثت في الجزء الأول مدي صحة مقولات التراث اليهودي المسيحي ونظريات صراع الحضارات وصدام الأديان, فإنها سعت في الجزء الثاني الي التصدي لهدم دعاوي الفرقة ودعم نداء التعايش والسلام من واقع ما بين المسيحية والاسلام من توافق وتقارب, بل ورغم ما قد يكون بينهما من اختلاف حسب تعبيرها. غني عن البيان أن مظاهر الفتنة التي تطل برأسها بين الحين والآخر تعكس مناخا من سوء الفهم المتبادل والمتعمد جانبا, وليس أمام أقباط مصر ومسلميها إلا التمسك بتقاليد الوحدة الراسخة والتي تم اختبارها في عشرات المعارك التي خاضها الطرفان ضد العدوان الخارجي, والخطوة الأولي في هذا الأمر, تتمثل أولا وقبل كل شيء في التسليم بأن لكل معتقده الديني, وقبول ان الإيمان قضية خاصة بين الإنسان وخالقه, والمعتقدات الدينية حسبما ذكر شيخ الأزهر د. احمد الطيب يجب أن تكون محل احترام متبادل بين اتباع الأديان وهو مايستدعي بطبيعة الحال.. في نظر كاتب هذه السطور التمسك بالدولة المدنية حسبما نص الدستور, وتنقية القانون من كل ما يتناقض مع الدولة المدنية, فالكارثة أقرب مما نتصور, والخطر محدق بالوطن. وفي النهاية, هذا الكتاب اسهام كبير من كاتبة كبيرة مصرية قبل أن تكون قبطية أو مسلمة, تعرف جيدا قيمة الوطن.