كما سبق وذكرنا أن هناك أفلاما سينمائية تعيش عبر الزمن لتصبح من تراث الفن والثقافة العالمية وليس فقط من تراث السينما, كما أن هناك العديد من الأفلام السينمائية, بل والكثير, تنتهي من الذاكرة الجماعية بمجرد عرضها أيا كان رقم الإيرادات التي حققتهافي صالات العرض.من تلك الأفلام التي يحتفل العالم قريبا بمرور60 عاما علي خروجها لصالات العرض فيلم( عربة أسمها الرغبة) من إخراج الأمريكي المثير للجدل آليا كازان وبطولة النجم مارلون براندو وفيفيان وهما اثنان من وحوش السينما الهوليودية في عصرها الذهبي ولنذكر بأن فيفيان لي هي البطلة الأسطورية لفيلم( ذهب مع الريح) أمام كلارك جيبل, أما مارلون براندو فغني عن التعريف,
الفيلم مأخوذ عن مسرحية لواحد من ألمع أدباء الولاياتالمتحدةالأمريكية في القرن العشرين تينسي ويليمز,والذي قدم له كازان مسرحيته تلك علي مسرح برودوي ولقت نجاحا عظيما, ولكن تحويلها الي فيلم سينمائي خلد أسم ويليمز عبر الزمن في كل أنحاء العالم. الفيلم هوالتجربة الثانية بين مارلون براندو وآليا كازان من بعد فيلمهما الرائع( علي رصيف الميناء) والذي أعتبر بداية لتغيير المسار في السينما الأمريكية, نحو السينما الاجتماعية, قبل أن يلتقيا مرة أخري في( فيفا زاباتا).
يعرض الفيلم في العديد من دور العرض الأوروبية تمهيدا للاحتفال به, ويذكر أن الفيلم/ المسرحية قدمته السينما المصرية في عمل بعنوان الرغبة من إخراج علي بدرخان وبطولة نادية الجندي في أروع أدوارها علي مدي تاريخها السينمائي مع الهام شاهين وكتب السيناريو له رفيق الصبان الذي طالما لمع أعمال تينسي ويليمز,والذي قد سبق له تحويل مسرحيته قطة علي سطح صفيح ساخن للسينما المصريةيحكي الفيلم قصة بلانش دي بواه التي تزور أختها ستيلا المتزوجة من أحد أفراد الطبقة العاملة(ستانلي كوالسكي) تعاني بلانش من الإفلاس من بعد أن فقدت منزل الأسرة وعملها كمدرسة من بعد فضيحة مع أحد تلاميذها الذي وقعت في حبه يري ستانلي زوج أختها فيها فتاة مدللة متعجرفة أضاعت ثروة أسرتها والتي يري أن له حقا فيها( طرد الأب زوجته من المنزل من بعد زواجها منه لتواضع أصله) لذا فهو لايكف عن مضايقتها والنزاع مع زوجته بسببها, إلي أن يكتشف ماضيا مريبا لها من بعد إفلاسها وعملها فترة في الدعارة, فيفضحها مما يؤدي لجنونها, قدم براندو دورا أكثر من رائع في دور الجلف العنيف, ويقال أن أداء براندو في هذا الفيلم ظل ولمدة طويلة مؤثرا علي طريقة الأداء التمثيلي في السينما الأمريكية مع ممثلين مثل جيمس دين وبول نيومان في بدايته وآخرين, وقد حازت الشخصية اعجاب الجمهور بالرغم من شرها وعنفها. أما فيفيان لي أو سكارليت أوهارا تبعا لشخصيتها التي قدمتها في الفيلم الأسطورة( ذهب مع الريح) فيقول عنها مارلون براندو في مذكراته التي نشرت باسم( الأغنيات التي علمتها لي أمي) أنها في شخصية بلانش بدت وكأنها شخصية سكارليت فاشلة لم تستطع الحفاظ علي ثروة العائلة, فهربت بمخيلتها في عالم صنعته لنفسها من الوهم والمجد الزائف لعدم قدرتها علي مواجهة الواقع المؤلم فأدي بها هذا الي الرحيل كليا لعالم الوهم وقطع علاقتها بأرض الواقع فكان الجنون.
الغريب أن شخصية بلانش تتشابه مع مسار حياة فيفيان لي التي كانت نجمة متوجة في المسرح الإنجليزي وزوجة سير لورانس أوليفيه ولكن بعد انتقالها إلي هوليود وتحولها إلي نجمة النجوم مع ذهب إلي الريح بدأت في عدم الاتزان والخوف من تقدم الزمن بها وفقدانها لجمالها, فاستعانت بالخمر لتخفيف قلقها لتسقط في بئر الإدمان وتنفصل عن زوجها إلي أن تكون نهايتها مثل نهاية بلانش في الرواية مع الجنون مسرحية كازان هي تجسيد للتطورات التي شهدها المجتمع الأمريكي في فترة مابعد الحر ب العالمية الثانية حيث حدث تدهور في بناء البرجوازية الصغيرة الممثلة في شخصية بلانش وصعود طبقات أخري, تلك البرجوازية الصغيرة التي مثلتها بلانش ليست برجوازية التجارة بل هي الطبقة المتوسطة المتعلمة المنحدرة من أصول عائلية كونت بعض الثروة من استغلال وتملك الأرض وهي الطبقة التي شهدت هزات عنيفة في أزمة الثلاثينيات وحلت محلها طبقات أخري صعدت أثناء وبعد الحرب لاشتراكها بقوة في تمويل الحرب كمورد لحاجات الجنود, أنها برجوازية ذات سمة صناعية تجارية لا أهمية لديها لأي اصل أو عائلة أو تقاليد شبه أقطاعية.
أما شخصية ستانلي التي قدمها براندو فهي تمثيل للطبقة العاملة التي أنهكت في الأزمة العالمية وكتبت كل أمالها أثناء الحرب العالمية الثانية, ولم تشهد حتي الآن فترة ازدهار مابعد الحرب التي استمرت لمدة ثلاثين عاما من الرخاء, مثل براندو تلك الطبقة التي شعرت بانهزامها وضياع الحلم الأمريكي بين يداها لجوئها للخمر والعنف, كانت شخصية براندو تجسيدا حيا لتلك الطبقة المأزومة في فترة مابعد الحرب كان الفيلم بداية لطرح مفهوم الرغبة والجسد علي فصيل من المجتمع,وقد قيم الكثيرون مسرحية تنسي ويليمز بأنهامدام بوفاري المجتمع الأمريكي الحديث الذي كان حتي تلك الفترة شديد التحفظ في طرح قضايا مشابهة في أدبيات السينما والمسرح أما كازان الذي يعد أهم مخرجي السينما الأمريكية في ادارة الممثل فقد قدم هذا العمل بشكل مسرحي داخل ديكور مغلق راهن فيه علي الحوار وأداء الممثل, علي حركاته, لحظات الصمت, تعبيرات الوجه...لذا كثرت في الفيلم لقطات عمق المجال حيث نري الممثل في مقدمة الشاشة بنفس وضوح الممثل في خلفية الشاشة,حتي يلاحظ المشاهد رد فعل الممثلين بوضوح علي وجه كل منهم بلا مونتاج في تواصل مستمر ليجعل للمشاهد حرية تكوين وجهة نظره عن العمل بشكل متكامل دون تدخل منه الفيلم أحد تحف السينما العالمية وتجسيد لفن التثميل وأداء الممثل, ووثيقة علي هذه العلاقة الثرية بين كازان وبراندو التي قلبت كل الموازين.