أثبتت الأحداث الأخيرة أن الوحدة الوطنية في مجتمعنا معرضة لخطر جسيم. مع أن المجتمع المصري يضرب به المثل في التجانس الاجتماعي حين نقارن بين الدول المختلفة في العالم. بل أن تجربة العيش المشترك بين المسلمين والأقباط تعد تجربة إنسانية فريدة, تحاول مجتمعات أخري عديدة احتذاءها. ما الذي أدي الي اشتعال الفتنة؟ لقد ساعدت الفضائيات الدينية التي تنشر الفكر المتعصب علي تشكيل اتجاهات دينية متخلفة بين كل من المسلمين والمسيحيين مما ساعد علي تصاعد موجات التعصب والتطرف. في كثير من الحالات للأسف مارس الإعلاميون دورهم بغير احساس بالمسئولية, وفي كثير من الأحيان كانوا هم أنفسهم من دعاة الفتنة. عوامل متعددة. غير أن الفتنة الأخيرة أدت الي اشتعالها نزعات تعصبية لدي بعض المثقفين ورجال الدين ولابد آن نتعرف بأن بعض المثقفين المسلمين وبعض المثقفين المسيحيين يصدرون عن تعصب مقيت, وينتجون أحيانا خطابات ملتهبة وعدائية تجاه الآخر من شأنها أن تثير الجماهير هنا وهناك. ونحن نعلم أن الجماهير في مصر لا تتمتع بوعي ثقافي كاف ولا بوعي اجتماعي بعيد مما يدفعها أحيانا الي ممارسة سلوك جمعي احتجاجي تشوبه الفوضي وتحدد سماته العشوائية! تصريحات في قناة تليفزيونية مغرضة هي الجزيرة التي تتبني موقفا عدائيا سافرا من مصر ولا تتوقف أبدا عن التحريض ضدها أصدرها مثقف إسلامي معروف باتزانه واعتداله ولكنه لأمر ما كان مستثارا هذه المرة وألقي بتصريحات جزافية لاسند لها عن تخزين أسلحة مهربة في الكنائس, وكان منفعلا بشدة وهو يلقي الاتهامات ضد المسيحيين بدون إدراك كاف لتأثيرها السلبي. ورجل دين معروف انزلق بسبب غير معروف لمناقشة آيات معينة وردت في القرآن الكريم ورأي فيها ما يمس عقيدة الأقباط, وأثار تساؤلات مستفزة بهذا الصدد, ولم يكتف بذلك ولكنه تطوع للخوض في تاريخ العلاقات بين المسلمين والأقباط, وأخطأ حين قرر أن الأقباط هم أهل البلاد الأصليين وأن المسلمين هم ضيوف عليهم! وأثبتت هذه الوقائع خطورة تعصب المثقفين من ناحية ورجال الدين من ناحية أخري. والمثقفون بشكل عام يقومون بدور بالغ الأهمية في الارتفاع بالوعي الاجتماعي للجماهير. ونحن نعرف أن لدينا نسبة أمية عالية, مما يساعد علي تفشي الجهل. ويضاعف من سوء الموقف الاجتماعي أن الثقافة الدينية لدي كل من المسلمين والأقباط بالغة الضحالة والسطحية مما يسمح للدعاة الدينيين المسلمين والأقباط وخصوصا المتعصبين منهم أن يشكلوا اتجاه الجماهير ويدفعوها الي التعصب. ولذلك إذا ما تخلي المثقفون عن مسئوليتهم الاجتماعية وتناسوا اعتبارات الموضوعية وغرقوا في صياغة خطابات دينية تعصبية فإن ذلك يدل علي افتقارهم, ليس فقط للحس الاجتماعي السليم ولكن للحس الوطني أيضا. لقد شاهدت باحثا إسلاميا معروفا علي شاشة التليفزيون دعا للتعقيب علي الأحداث, وكان منفعلا غاية الانفعال, وفي تعقيبه حاول أن يؤجج الفتنة ويشعل الخلاف, وهو للأسف معروف بأنه متعصب للغاية وسبق له أن ارتكب جريمة الطعن في عقيدة الأقباط في تقرير شهير أصدره للأسف مجلس البحوث الإسلامية, وبعد أن وزع مع جريدة الأزهر تم سحبه بعد أن تبين أنه يمكن أن يشعل فتنة كبري بين المسلمين والأقباط. ومن ناحية أخري لا نستطيع أن نجد تفسيرا لسلوك رجل الدين القبطي المعروف الذي تجاوز كل الخطوط الحمراء وانطلق بغير علم لكي يعلق علي آيات قرآنية رأي أنها تمس عقيدته. وإذا كان هذا هو سلوك بعض المثقفين ورجال الدين من هناك وهناك فمعني ذلك أن الجماهير حين تندفع الي ممارسة سلوك احتجاجي فوضوي وعشوائية فمعني ذلك أنها لم تجد القيادة الثقافية الصالحة ولا الزعامة الدينية الأصيلة التي ترشدها وتوجهه الوجهة الصحيحة. ولا شك أنه من بين الأسباب التي أدت الي الفتنة الإعلام غير المسئول سواء في ذلك الإعلام المقروء أو الإعلام المرئي. في كثير من الحالات للأسف مارس الإعلاميون دورهم بغير احساس بالمسئولية, وفي كثير من الأحيان كانوا هم أنفسهم من دعاة الفتنة. ولقد ساعدت الفضائيات الدينية التي تنشر الفكر المتعصب علي تشكيل اتجاهات دينية متخلفة بين كل من المسلمين والمسيحيين مما ساعد علي تصاعد موجات التعصب والتطرف. في ضوء ذلك لابد للمثقفين من كلا الطرفين أن يمارسوا النقد الذاتي فيما يتعلق بالخطابات التي ينتجونها والتي تمس عقائد الآخرين. ولابد لرجال الدين من كلا الطرفين أيضا أن ينتجوا خطابات دينية تحض علي الاعتراف بدين الآخر, وعدم المساس بالعقائد, وفي ذلك تطبيق حقيقي لتوجهات إسلامية ومسيحية تدعو لاحترام العقائد المختلفة. وبالرغم من أننا عقدنا مسئولية المثقفين من ناحية ورجال الدين من ناحية أخري, إلا أن الدولة مسئولة في المقام الأول. وتتمثل مسئوليتها في تفعيل المواطنة وعدم ممارسة التمييز بأي صورة, ومناقشة مشكلات الأقباط بصورة موضوعية, ووضع الحلول المناسبة لحلها. ولكن في ضوء الفتنة الأخيرة لابد من إصدار تشريعات جديدة تجرم ازدراء الأديان, وتدين التعصب حين يتحول الي سلوك ملموس يمكن أن يؤجج مشاعر الجماهير ويدفعها الي مظاهرات فوضوية. لقد شهد مجتمعنا في الفترة الأخيرة مظاهرات احتجاجية إسلامية ومسيحية تدور حول وقائع غير ثابتة تتعلق بإسلام بعض المسيحيين أو بتحول بعض المسلمين الي المسيحية. وقد أدت الشائعات دورها في هذا المجال وأججت مشاعر الجماهير التي انطلقت بصورة هستيرية تنادي بالثأر وكشف الحقائق. مع أن الوقائع الفردية التي قامت بشأنها هذه المظاهرات لا أهمية لها علي الإطلاق حتي لو كانت صحيحة! فماذا يعني الناس أن تتحول سيدة مسيحية الي الإسلام, أو يتحول مسلم الي المسيحية, وخصوصا أن لدينا مبدأ إسلاميا ثابتا هو لا إكراه في الدين. لابد من أن نرسخ مبدأ الحرية الدينية, ولا يمكن أن يتم ذلك إلا في ضوء نشر ثقافة دينية مستنيرة. وهذه الثقافة لا يمكن لها أن تنشأ إلا إذا تحقق تجديد حقيقي في كل من الخطاب الديني الإسلامي والمسيحي. وتلك هي مهمة الأزهر من ناحية والكنيسة القبطية من ناحية أخري. آن الأوان للخروج من أسر الجمود المذهبي, والإبداع في مجال إنتاج تفسيرات عصرية للآيات الدينية تسمح للجماهير أن تمارس حياتها بصورة صحيحة في سياق عالم مختلف وظروف ثقافية جديدة تستدعي من الفرد مجهودات متواصلة للتكيف مع تحديات العصر.