بدأت رحلتنا من قرية حجازة في جنوب محافظة قنا وهي قرية صغيرة أغلب سكانها من الناس البسطاء الذين يعتمدون علي الزراعة والحرف البسيطة لتوفير قوت يومهم ويعيشون في بيوت صغيرة من الطوب اللبن ملونة بكل ألوان البهجة تحيطها طبيعة ساحرة وجمال بديع.تضم حجازة12 ورشة لإنتاج منتجات تراثية بأشكال فرعونية من خشب' السرسوع' وهو خشب مستخرج من شجر يحمل نفس الاسم الذي يحتاج الي20 عاما لكي ينمو وهي حرفة متوارثة منذ قديم الازل تجمع بين الفن والتاريخ والأصالة المصرية القديمة الا أنها كانت تعاني من مشكلات عديدة وأعباء ثقيلة تتعلق بكيفية تسويق المنتجات وتحسين جودتها وتوسيع مجالات استخدامها. وبدلا من أن تقتصر المنتجات علي تماثيل واشكال فرعونية للزينة فقط اقترح الخبير الاجنبي الذي استقدمه مركز تحديث الصناعة لتطوير مهارات صغار الحرفيين هناك. صناعة أدوات طعام تجمع بين سهولة الاستخدام والشكل الراقي والاصالة المصرية مع مراعاة الاشتراطات الصحية بأقل الامكانات الممكنة وبالفعل نجح الحرفيون في ابتكار وتنفيذ منتجات جديدة حققت نجاحا مبهرا في العديد من المعارض المحلية والدولية وانهالت عليهم عروض التصدير للعديد من الدول علي رأسها امريكا وفرنسا. داخل احدي الحارات الضيقة المتفرعة من الشارع الرئيسي الذي يفصل النيل عن الحقول استقبلنا أكرم نظيم في ورشته التي لاتزيد مساحتها علي60 مترا وليس لها سقف سوي جريد النخل ليحميهم من حرارة الشمس الحارقة دون أن يحجب نسمات الهواء اللطيفة التي تبعثها مياه النيل..يعمل أكرم في هذه المهنة منذ أكثر من25 عاما فقد كانت بالنسبة له هواية منذ نعومة أظافره فكان يعمل في احدي الورش المتخصصة في التحف الخشبية حتي حصل علي دبلوم الصنايع واستطاع أن يحول البيت الصغير المقابل لمنزله في تلك الحارة الضيقة الي ورشة تضم7 عمال وماكينتين لينتج آلاف القطع الخشبية سنويا.. ولم يكن حب المهنة مقتصرا عليه فقط فقد كان لأخته وزوجته وابنته الصغيرة روزيت دور كبير في انتاج التحف الخشبية حيث ينتهي العمال من صناعة منتجاتهم ثم ينقلونها الي نسائهم في البيوت' لصنفرتها' وتشطيبها بمنتهي الدقة والجودة مقابل ثلاثة جنيهات للقطعة الواحدة لتنتقل بعد ذلك الي' البازارات' في اهم المناطق السياحية المصرية أو الي الاسواق الخارجية. أكد أكرم أن مهاراتهم في صنع التحف الخشبية الفرعونية لم تكن كافية لتكون مصدر دخل ثابتا لهم فقد كانوا يواجهون مشكلات كثيرة أهمها كيفية تسويق منتجاتهم خاصة مع صعوبة تحديد احتياجات الأسواق مشيرا الي أن مشروع وزارة التجارة والصناعة الخاص بتنمية الحرف استطاع ان يفتح لهم الباب علي مصراعيه لتطويرمنتجاتهم فقد قدم لهم خبير الفن التشكيلي الأجنبي نماذج جديدة كالصواني الخشبية وأطباق السلاطة وطبق الحلويات علي أشكال فرعونية وغيرها كما نصحهم بعدم استخدام أي ألوان أو مواد لاصقة صناعية حتي لا تكون ضارة بالصحة. وأضاف:' في البداية لم نتقبل الأفكار الجديدة بسهولة ولم نكن نتوقع أن تحقق أي عائد ولكننا نفذناها علي سبيل التجربة وتم عرضها في معرض فيرنكس الذي أقامه مركزتحديث الصناعة في القاهرة منذ عدة أشهر وفوجئنا بنفاد كل منتجاتنا التي شاركنا بها بالاضافة الي طلبات كثيرة للتصدير لفرنسا وأمريكا وبلجيكا تغطي شغل عام كامل. وتابع قائلا' لم نكن نعرف سابقا ما هي السوق ولم نستوعب كيف ندخل الاسواق العالمية ونغطي الاسواق المحلية وكانت كلها مجرد اجتهادات شخصية بعد تصنيع المنتجات ننزل للقاهرة للتجار ونعرض عليهم بضاعتنا وبتجربة معرض فيرنكس ادركنا من اول عام من المشاركة فيه ان المستهلك الذي نتعامل معه ليس عاديا ويختلف عن المصري له نظرة مختلفة للسلع المقدمة له ففي اول معرض لنا بالخليج انتجنا بعض المنتجات علي شكل قطة وحيوانات مختلفة الا اننا اكتشفنا ان هذه المنتجات يعتبرها المستهلك الخليجي' حراما' فلم تجد اقبالا ولم نحقق نجاحا في اول سنة ولكن بعد ان تعرفنا علي ما يرضي المستهلك العربي والاجنبي وبمجرد دخولهم الورشة بدأوا التدريب علي التصميمات الجديدة ولم يضيعوا اي وقت مضيفا ان هناك العديد من التصميمات التي لا تتناسب مع مصر فبعض التصميمات لم تعجبه اثناء تنفيذها الا انه فوجئ بأنها لاقت اقبالا لم يكن يتوقعه من المستهلك الاجنبي واغلب المنتجات يلاقي رواجا في فرنسا وبلجيكا مضيفا انهم واجهوا العديد من الاشتراطات التي كان يصعب توفيرها حينها ومصرح بها بيئيا. وأوضح أكرم أن هناك تغيرا ملحوظا في العقبات التي تواجه حرفة صناعة التحف الخشبية حيث تحولت من مشكلات التسويق الي مشكلات نقص العمالة ونقص المواد الخام فالمهنة بأكملها تقوم علي خشب السرسوع الذي يعد أكبرعقبة لهم نظرا لعدم توافره بكثرة بالقرية فهو من أهم أنواع الأخشاب وله مواصفات خاصة ومميزة. فهو يتميز بجمال الشكل ومطيع للأيدي في التشكيل, بحيث يصير ناعم الملمس.. وهو كثيف جدا وثقيل, بحيث لو جهز تجهيزا صحيحا لا ينكسر أبدا. ويتم شراؤه من كوم أمبو وأسوان ويحتاج إلي أماكن واسعة بها تهوية كافية لتخزينه.. فالسرسوع غير متوفر في السوق وسعره مرتفع لأنه يستخدم بكثرة في صناعة المراكب بسبب متانته الشديدة. ولابد أن يخزن الخشب4 سنوات ليجف من الرطوبة نهائيا ويكون سهل الاستخدام.. ولأن كل خطوات الإنتاج تتم بطريقة يدوية, يستغرق إنجاز منتج معين إلي وقت وجهد كبيرين, ولهذا السبب تكون الأسعار مرتفعة والمنتجات الخشبية علي قدر كبير من الجودة. وأكد أكرم أن الحكومة هي القادرة علي حل مشكلة ندرة خشب السرسوع إما بإعطاء أولوية لزراعة شجر السرسوع في الغابات الموجودة بالصعيد بدلا من شجر الكافور والصفصاف الذي يستسهلون زراعته وإما إجراء مفاوضات مع الحكومة السودانية لاستثناء مصر من حظر استيراد شجر السرسوع من السودان. كذلك الحال فيما يتعلق بالعمالة حيث تعاني المهنة من عدم اقبال الشباب علي التدريب عليها رغم أنها من أكثر المهن التي توفر دخلا مرتفعا في قرية حجازة حيث يتقاضي العامل25% من قيمة المنتج الذي يقوم بتصنيعه مؤكدا أن انخفاض عدد العمال المهرة في ورشته له تأثيرات سلبية كبيرة لأنه قد لا يتمكن من الوفاء بالطلبات المتعاقد عليها مما دفعه الي رفض عدد من عروض التصدير التي جاءته أثناء معرض فيرنكس بسبب انخفاض الطاقة الانتاجية وكشف أكرم عن العديد من عمليات النصب التي تعرضوا لها حيث كان يأتي إليهم ممثلون عن جمعيات أهلية بوعود كثيرة عن توفير مساعدات مالية وتسويقية ثم نكتشف أنهم كانوا يستغلوننا للحصول علي تمويل من الجهات الأجنبية المختلفة المهتمة بالحرف التراثية ولا نري أحدا منهم بعد ذلك وأضاف أكرم أن تدخل الجهات الحكومية لرعاية الحرف التراثية في القري والنجوع المصرية له تأثير إيجابي كبير خاصة وأنه استطاع أن يرتقي بالعامل المصري البسيط ويوفر له كل الدعم الذي يساعده في تأسيس مشروعه الخاص وتسويق منتجاته. وأنهي أكرم حديثه قائلا الخوف الحقيقي الان من المنتجات الصينية التي تقوم بتقليد كل أشكال المنتجات الحرفية بأسعار أقل بكثير. ويقول جمال بشير مدير مركز التدريب علي صناعة التحف الخشبية بقرية حجازة أن المركزيعمل علي تدريب25 طالبا لمدة سنتين90% من الطلاب الذين يتم تدريبهم مؤهلات عليا والباقون في مراحل التعليم المختلفة مما ساعد الطلاب في مساعدة أسرهم ماديا ولكن اغلبهم بعد التمكن من المهنة يفضلون انشاء ورشة مستقلة لهم او العمل بمجال السياحة. وأوضح قائلا: إن المركز يعمل علي نفس التصميمات الموجودة بالقرية من زمن بعيد فهو يقوم برسم الاطر الخارجية للحرفي الذي يسلكها ويحذو حذوها وتختلف كل قطعة عن الاخري في أشكال مختلفة من لوتس وخرطوشة سجاير فهناك أكثر من500 شكل نعمل عليها وعندما جاء الخبراء الاجانب عملوا تصميمات جديدة تتناسب مع طلبات الأجانب من حيث تداخل الالباستر والحجر الاصفر ولاقت نجاحا كبيرا في معرض فيرنكس وبالفعل ارسلوا عينات للاجانب وطلبوا العديد من طلبات التصدير وفي هذه الطلبات نراعي الدقة المتناهية لأنهم لا يقبلون اي غلطة في العمل. واثناء جولتنا بالورش الموجودة بحجازة التقينا بأيمن بقطر وهو شاب لايتجاوز الثلاثين من عمره يؤكد أن لديه ولعا بتلك المهنة التي تعتمد علي الفن والابداع فمنذ أن كان طفلا كان يشاهد والده وعمه يصنعان احلي المنتجات الخشبية فبدأ التدريب عليها بورشة التدريب الخاصة بجمعية تنمية الصعيد ثم انتقل الي العمل في ورشته الحالية منذ ست سنوات. ويروي تجربته مع الفنان التشكيلي الاجنبي الذي قضي معهم أسبوعا لتطوير مهاراتهم حيث وصفها بتجربة العمر التي أضافت له الكثير والكثير من الخبرات حيث قدم لهم العديد من الاقتراحات التي أضافها علي أعماله التقليدية من التماثيل الفرعونية الخشبية وأواني المائدة بالاضافة الي كيفية التعامل مع المادة الخام وتقليل الهادر منها. اما وائل بقطر ابن عمه ويعمل بنفس الورشة فحاله لا يختلف كثيرا عنه فيعمل بالورشة وحاصل علي دبلوم صنايع والتحق بالورشة منذ9 سنوات منذ فترة تدريبه بمركز التدريب جمعية تنمية الصعيد. ويقول وائل إن العائلة كلها تعمل بنفس المهنة فهو واخواته واولاد عمه الخمسة يعملون بنفس المهنة اخري بالقرية كذلك كان والده وعمه اللذان توفيا منذ فترة قريبة مشيرا الي أن والده كان يدربه علي الرسم وابتكار رسومات جديدة ولكن نظرا لصعوبة التسويق لم يتمكن حينها من تأسيس مشروع خاص به. وعندما سألناهم عن دخلهم الشهري قال: إنه قد يصل الي ألف جنيه في الشهر وفي حالة تعاون كل افراد الأسرة من النساء والشباب فإنه قد يصل دخل الاسرة الي ثلاثة آلاف جنيه شهريا. وبالقرية يثبت للرجل ان المرأة بالفعل نصف المجتمع فاغلب السيدات يتعاون مع ازواجهن في العمل فنرجس نظيم تتعاون مع زوجها في العمل وتحرص علي الوقوف بجانبه خاصة في ظل الطلبيات الضخمة المطلوبة من الورشة ويساعدها ايضا في تغطية مصاريف منزلها وشراء احتياجاتها واعتبرت العمل وسيلة للتسلية ايضا. واصطحبتنا في جولة داخل المنزل ومن الوهلة الاولي تشعر بأنك في بيت ريفي أصيل الا أن الدهشة أصابتنا عندما رفعت نرجس مفروشات' الكراسي' التي يجلسون عليها في ساحة البيت حيث كانت مجرد وسادات موضوعة علي صناديق كبيرة تحتوي علي العشرات من المنتجات الخشبية التي يخزنونها بهدف تصديرها. أما انجي شاعر زوجة احد اصحاب الورش بالمنطقة وعمرها24 سنة ولديها طفلان روزيت وبطرس يحرصان علي الجلوس بجانبها عندما يطلب منها زوجها صنفرة عدد من المنتجات الخشبية وتشطيبها وتتمني ان يتقنا العمل مثل والدهما موضحة ان المهنة ممتعة وأضافت أن والدها ايضا يمتلك ورشتين بالقرية وكانت تشارك والدها ايضا في العمل قبل الزواج. وكانت المفاجأة لنا روزيت ذات الثماني سنوات التي تساعد والدتها في العمل بصنفرة المنتجات ومتحمسة لتعلم المهنة وبالفعل صنعت عددا من المنتجات الخشبية الصغيرة وتقول إنها تحب الاشكال التي يصنعها والدها وتحب اللعب بها هي وأخوها الصغير.