من الواضح أن قرار حظر تصدير الحبوب الذي اتخذته الحكومة الروسية لم يأت بالنتائج المطلوبة سياسيا واقتصاديا لموسكو. فبعد أقل من شهر علي الفرمان الروسي نلاحظ سيلا هائلا من التصريحات الحكومية وغير الحكومية في روسيا تعكس الرغبة في التراجع عن هذا القرار الذي سيحتاج إصلاحه إلي سنوات طويلة. ففي خطوة فسرها مصدرو القمح الروس بتراجع الحكومة عن قرارها بحظر تصدير القمح, أعلنت وزيرة الزراعة الروسية يلينا سكرينيك عن ارتفاع احتياطي روسيا من الحبوب إلي26 مليون طن وفقا لآخر تقدير أعدته هيئة الإحصاء في روسيا بزيادة قدرها4 ملايين و300 ألف طن عما أعلنه مسئول بالحكومة الروسية في أغسطس الماضي نقلا عن هيئة الإحصاء التي أعلنت وقتذاك عن وجود مخزون من الحبوب يصل إلي21 مليونا و700 ألف طن. وزيرة الزراعة الروسية صرحت قبل يوم واحد فقط من هذا التصريح بأن حجم محصول الحبوب في بلادها وصل إلي48 مليون طن. وأكدت أن المقاطعات الروسية الواقعة في سيبيريا والأورال الي جانب المقاطعات الجنوبية ستحصد أيضا15 مليون طن من الحبوب في الأيام القريبة المقبلة, مشيرة إلي أن مخزون الحبوب, حسب معطيات هيئة الاحصاء, يقدر ب26 مليون طن. ومن هناك سيكون بحوزة البلاد حوالي89 90 مليون طن من الحبوب في نهاية الموسم الزراعي الحالي. معني ذلك أن الهوجة التي افتعلتها الحكومة الروسية, علي خلفية الحرائق التي اجتاحت روسيا, لم يكن لها أي معني سوي جس نبض جيوب أوروبا وبطون العالم الثالث, وما خفي كان أعظم. الطريف أن مصادر اقتصادية قالت إن الحكومة الروسية وجدت مخزونا مجهول الهوية من القمح, ما فسره موظف من هيئة الإحصاء الروسية بأن التقدير الجديد يأخذ في الاعتبار ما تبقي لدي المزارعين الفرديين من محصول السنة الزراعية الماضية. وأشارت صحيفة فيدوموستي إلي أن زيادة مخزون الحبوب تخفف التوتر في سوق روسيا للحبوب الي حد كبير, مشيرة إلي أن حاجة الاستهلاك المحلي في روسيا تقدر ب77 مليون طن من الحبوب في السنة. أما وزارة الزراعة الروسية فتتوقع أن تنتج روسيا63 مليون طن من الحبوب في عام2010, وبالتالي تستطيع روسيا أن توفر احتياجات الاستهلاك المحلي وتصدر الفائض إذا انتجت63 مليون طن, محتفظة بالاحتياطي المحدد. أي ببساطة ستحافظ روسيا علي احتياطي القمح لديها, وسوف تنتج أيضا63 مليون طن من القمح. إذن, لماذا كانت هذه الهوجة؟! هنا تدخل السياسة, شئنا أم أبينا. فقد أكدت مصادر سياسية, هذه المرة, أن المعطيات الجديدة حول مخزون القمح المجهول ما هو إلا مقدمة لتراجع الحكومة الروسية عن قرارها بحظر تصدير القمح بعد أن أدركت, وبعد فوات الأوان, أن المستوردين لجأوا بالفعل إلي دول أخري مصدرة مثل الولاياتالمتحدة وفرنسا والأرجنتين وكندا وألمانيا وبريطانيا وأستراليا. وأكدت هذه المصادر أن الحكومة الروسية فرضت بالفعل حظرا شاملا في15 أغسطس الماضي, ولكن سرعان ما تراجعت عنه مستثنية الحالات الانسانية وعدد من الحالات الأخري. وفي النهاية سربت الحكومة معلومات بأنها ستقوم بتنفيذ العقود السابقة علي تاريخ الحظر. وفي الوقت الذي زادت فيه صادرات الولاياتالمتحدة وفرنسا والأرجنتين من القمح, أعلن رئيس الوزراء الاوكراني نيقولاي أزاروف أن حكومته لن تفرض أي قيود علي تصدير الحبوب الي الأسواق العالمية رغم انخفاض حجم المحصول بسبب موجة الجفاف التي حصلت هذا العام. ولكنه في الوقت نفسه أبلغ تجار الحبوب بضرورة وضع جداول للتصدير بشكل لا يخرق استقرار الاسعار في أوكرانيا نفسها. وهو الامر الذي ضربت به الحكومة الروسية عرض الحائط وضغطت علي تجارها وشركاتها لكي تنصاع تماما لقرار الحظر. موسكو الآن في حيص بيص بعد أن فقدت جزءا من أسواقها في مجال تصدير الحبوب. عليها الآن أن تنتظر العودة المحمودة ولكن الانتظار قد يطول, أو تدخل في منافسات لبيع قمحها بأسعار أرخص. فقد كان من الصعب أن تنصح الدول المستوردة مواطنيها بأن يمتنعوا عن الأكل إلي أن تقرر روسيا ولو حتي تنفيذ العقود القديمة. الآن وبعد فوات الآوان يعلن الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف أن روسيا سترفع الحظر عن تصدير الحبوب عندما يتبين الوضع حول الحصاد لهذا العام. أما رئيس الوزراء فلاديمير بوتين فيؤكد أن السلطات لن تنظر في امكانية رفع الحظر عن تصدير الحبوب إلا بعد جمع الحصاد لعام2011. بينما وزيرة الزراعة الروسية تقول إن كل شيء علي ما يرام. كل ما في الأمر أن روسيا, بقرار متسرع, أخلت بالتزاماتها فخرجت من أسواقها فشغلته دول أخري وموردون آخرون. والآن يشغل نفس أصحاب القرار أنفسهم مرة أخري بكيفية العودة والحفاظ علي ماء الوجه في آن واحد. وكأن الناس يقفون صفوفا مهللين مكبرين بالعودة المحمودة للقمح الروسي الذي لا ينافس.