يا مقبل يوم وليلة.. اطوي السكة الطويلة.. وديني بلد المحبوب. بكلمات أغنية فريد الأطرش دخلنا إلي باب الحديد.. محطة مصر.. حيث الناس من هول الحياة موتي علي قيد الحياة زحام.. ضجيج.. حر وتلوث.. طلبة وموظفون.. بنات واولاد.. شباب وعواجيز.. فلاحون وصعايدة.. موظفون وصنايعية.. كلهم اجتمعوا في مكان واحد ليفرقهم ميعاد ونوع القطار الذي سيلحق به كل منهم, لكن رحلتنا نحن كانت مع ركاب الدرجة الثالثة او في قطار الغلابة.. كما يسميه ركابه لنرصد خلال أربع ساعات رحلة معاناة الوصول إلي البيت. بعد وقفة طويلة أمام شباك تذاكر الدرجة الثالثة او حورس كما تسمي الآن لانه قانونا قد ألغيت هذه الدرجة وحلت محلها هذه النوعية الجديدة المميزة كما يطلق عليها الجميع. استطعت ان احصل علي تذكرة بعشرة جنيهات ونصف إلي الاسكندرية وعندما سألت عن ميعاد الوصول قالوا لي انه سيصل الاسكندرية بعد حوالي4 ساعات, اخذت التذكرة وجريت إلي القطار الذي تحرك في الساعة الثالثة والنصف عصرا, واستطعت اللحاق به علي رصيف3 ولكن بعد ان التقطت يدي مجموعة من الشباب المعلقين علي باب احدي عربات القطار, وما ان وطأت قدمي ارض العربة حتي وجدت نفسي وسط علبة سردين حيث لا مكان لقدم طفل صغير, فالأرض اكتظت بمن يجلس عليها مثلما حدث للكراسي وحتي الفراغات بينها لم تخل من الأقدام. اما اماكن وضع الحقائب فهناك من راح في ثبات عميق, وهناك من جلس عليها واضعا قدمية فوق رأس الجالسين. انطلق القطار لتختلط رائحة العرق بدخان السجائر, واصوات الشباب وضحكات البنات. وقفت أتأمل الناس, فهذا موظف يمسك في يده جريدة.. وآخر يمسك كتابا.. وهذا رجل مسن اخرج من حقيبته كرسيا ينام عليه, وهناك سيدة جلست ووضعت طفلها لينام علي قدميها, اما من تجلس بجوارها فقد وضعت امامها( طشتا) فارغا يبدو منه انها بائعة اتت للعاصمة لبيع الخيرات الفلاحي وهي الآن في طريقها للعودة إلي بلدها. حاجة ساقعة بيبسي فجأة وبدون مقدمات دخل بائع الحاجة الساقعة, وكأنه هند رستم في فيلم باب الحديد يعرف خطواته جيدا, وبعده دخل بائع الساندويتشات يمشي علي درب سابقه, والجميع يأخذ ويشتري فالساندوتش بنصف جنيه لو كان جبنة, ام اللانشون فخمسة وسبعين قرشا, والحاجة الساقعة بجنيه. في محطة طوخ بدأ الزحام يقل تدريجيا لاجد لقدمي مكانا استطيع من خلاله التحدث مع السيدات اللاتي جلسن علي الأرض بعد أن وقف القطار ونزلت منه مجموعة من الركاب. ام محمود سيدة قارب عمرها علي الخمسين - سألتها عن رحلتها إلي القاهرة فقالت: أنا من بنها فلاحة ببيع لبن وجبنة قريش وخضار وكمان عيش فلاحي لزبايني في مصر, وبصراحة ساعات كتير مش بقطع تذكرة اصلها لحد بنها بتلاتة جنيه ونص, وساعات الكمسري بيفوتلنا, احنا غلابة وبنجري علي اكل عيشنا وبنسافر كل يوم. أما كريمة عبدالسيد فقالت: أنا كمان من بنها بشتغل في مصر في مشغل من الساعة8 إلي الساعة2 زي الموظفين, ولما بخلص باجي علي المحطة استني القطار وأروح بيتنا. القطار ده زمان كان درجة تالتة, وقالولنا هانلغيها ونعملكم حاجة أحسن, هكذا بدأ الاستاذ مجدي عبدالدايم حديثه, وأكمل قائلا: أنا موظف في احدي المصالح الحكومية وبسافر يوم ويوم لذلك فأنا عندي اشتراك سنوي مثل اشتراك مترو الانفاق في القاهرة, ولا ننكر ان القطارات اتغيرت واتحدثت لكن الزحام مازال مستمرا لان هذا الحورس هو بديل لقطار الدرجة التالتة, اما ركابه فهم انفسهم كما كانوا, بل في زيادة مستمرة لاننا اكثر اهل الأرض. الرحلة في قطار الغلابة مؤلمة لكنها ايضا مفيدة, فخلالها تستطيع ان تشتري ملابس وشرابات بأرخص الأسعار, اقل حتي من الموسكي, والوكالة, كذلك الحال بالنسبة للشيكولاتة التي يبدأ بائعها بالاتنين بنص جنيه إلي ان يصل به الحال لبيع الثمانية بجنيه, وفي كل محطة ينزل باعة ليصعد آخرون, وخاصة أن هذا القطار يقف في اكثر من15 محطة, ولن نستطيع ان نغفل حلاوة طنطا والسيد البدوي, ففي هذه المحطة تمتلئ عربات القطار بباعة الحلوي الذين يبيعون لكل الركاب تقريبا وينزلون خلال الدقائق القليلة التي يقف فيها القطار في المحطة. بعد طنطا استطعت ان أجد لنفسي كرسيا استريح عليه لاجلس بجوار شاب يدعي مجدي محمود من مركز كفر الدوار بحيرة, قال: انا نجار مسلح عندي شغل مع مجموعة صنايعية في مصر او القاهرة كما تقولون ونحن دائما في سفر ونختار هذه القطارات لرخص ثمنها طبعا, فأنا صنايعي لو فكرت اشتري راحتي واركب المكيف ممكن ادفع ضعف يوميتي, وكلنا هنا بنعدي الطريق وبنشغل اغاني علي موبايلاتنا بس قبل الموبايل كنا بنحضر كاسيت صغير بحجارة لكن الموبايل غير كل شيء, وعلي قد لحافك مد رجليك, حتي لو كنا سنتحمل الحر الشديد وعدم وجود دورات مياه او تكييف زي بتوع الناس اللي فوق. مرت كفر الدوار واخيرا وصلنا إلي الإسكندرية لنبدأ علي الفور رحلة العودة إلي القاهرة والتي لم تختلف كثيرا عن رحلة الذهاب.