نجحت مصر في التصدي للإرهاب الأسود الذي استهدف زعزعة أمنها واستقرارها, كما استطاعت أن تواجه بثبات وشموخ الضغوط الخارجية التي وصلت الي الحد الذي يمكن تسميته بالإرهاب السياسي, ولم تتخل عن ثوابتها ورسالتها ودورها في المنطقة, ورفضت المشاركة في مخططات الهيمنة وبسط النفوذ واستنزاف ثروات الشعوب.. ولكن مصر تواجه الآن إرهابا من نوع جديد يسعي هذه المرة الي إجهاض مشروعها الاقتصادي القائم أساسا علي الشراكة مع القطاع الخاص وعلي جذب المزيد من الاستثمارات اللازمة لتمويل مشروعات التنمية. إننا هنا ننبه الي ذلك السلوك المعتاد من الجماعات الخارجة عن الشرعية والقانون في استغلال العديد من الملفات المفتوحة والأجواء المشحونة والمتعلقة بمخالفات تخضع للتحقيق والمتابعة من أجهزة الدولة, واعتبار ما يثار في وسائل الإعلام وعلي ألسنة الرأي العام فرصة لخلط الأوراق وتشويه تجربة وطنية ناجحة نالت اهتمام وتقدير الهيئات والمؤسسات الدولية ووضعت الاقتصاد المصري علي الطريق الصحيح والواعد بآفاق أرحب وأكثر قدرة علي تحقيق أهدافه المنشودة خلال المستقبل القريب.. وبصراحة تتيحها مساحات حرية الرأي والتعبير التي تستفيد منها تلك الجماعات وبما يتجاوز الخطوط الحمراء وتصل في دعاياتها المضادة الي التحريض المباشر والهدم المتعمد, فإننا نشير الي أن الخطورة لا تكمن في سوء النية والقصد من هذه الجماعات التي تتحرك حسب أجندات معروفة ومشبوهة لها أبعادها الداخلية والخارجية, ولكن الخطورة كل الخطورة في استمرار ثقافة مجتمعية ترفض القبول بشريحة موجودة في كل المجتمعات وتمتلك خصائص وامتيازات معيشية نتمني أن يزداد عددها ويصبح لدينا الآلاف من القادرين علي إحداث نقلة نوعية في وطنهم.. ولعل النظرة السلبية من المجتمع لرجال الأعمال والمستثمرين لا تعود فقط للإرث التاريخي الذي يعود بنا الي زمن الاقطاع ومجتمع نصف في المائة الذي درسناه في الفصول الدراسية, وانما يتحمل رجال الأعمال جزءا كبيرا من المسئولية وذلك لغياب دورهم الاجتماعي في دعم المشروعات والأعمال الخيرية التي طالما تحدثنا عنها باعتبارها وسيلة رئيسية لتحسين صورة تهتز نتيجة أخطاء فردية من بعضهم وشائعات تطاردهم وتحتاج الي تفاعل حقيقي يزيل آثارها ويؤكد أنهم في نهاية المطاف في قارب واحد مع بقية أبناء الوطن.. وقد نضيف أيضا لجوء عدد من رجال الأعمال الي أساليب خاطئة للتعامل مع الرأي العام, منها الاعتماد علي حملات الدعاية التقليدية والمدفوعة الثمن والارتباط بعلاقات عمل غير سوية مع عدد من العاملين في وسائل الإعلام, مما يترتب عليه إما أن يكون النشر وتسليط الأضواء مرتبطا بمصلحة شخصية, أو أن يجري اتهام كل من يتصدي للدفاع عنهم بأن له مثل هذه المصلحة الشخصية, فكان أن انصرف الجميع من حولهم وقت الشدائد وما أكثرها هذه الأيام.. وبنفس الحرص علي الدور الحيوي والمطلوب من رجال الأعمال والمستثمرين نستطيع أن نطرح في ضوء المشهد الراهن مجموعة من الحقائق المهمة: أولا: ان السؤال الأساسي الذي يجب أن نطرحه علي أنفسنا وعلي المشاركين في الحملات الضارية والتي تتعامل مع رجال الأعمال والمستثمرين علي أنهم من مصاصي الدماء والمفسدين في الأرض, هل هؤلاء هم فقط من تتردد أسماؤهم في الصحف والبرامج علي خلفية التجاوزات والمخالفات التي ارتكبوها؟.. أليس هناك الأغلبية الساحقة منهم والذين أقاموا المصانع والمزارع وسط الصحراء وشيدوا المدن والمنشآت الحضارية التي نفتخر بها داخل الدلتا القديمة وخارجها.. والاجابة القاطعة تؤكد أن مصر لم يكن لها أن تحقق مثل هذه الانجازات وان تتفرغ الدولة لمسئولياتها في تحديث البنية الأساسية وتشييد المشروعات العملاقة بدون مشاركة فاعلة من القطاع الخاص ومن أموال رجال الأعمال والمستثمرين.. والإجابة تقول أيضا إن العالم أجمع وليس مصر وحدها يسعي لجذب المزيد من أموال الاستثمارات وأن جميع الدول, سواء المتقدمة منها أوالنامية, تطرح الحوافز الإضافية لهؤلاء المستثمرين وهذا يحدث في الولاياتالمتحدة وأوروبا والصين وبقية الدول الكبري والناشئة اقتصاديا.. والدولة أي دولة قادرة وتستطيع أن تضع الضوابط والقوانين التي تحمي مصالحها وثرواتها وبحيث لا يتحول الأمر الي مرض نفسي وخوف دائم من هذا المستثمر الذي يصوره البعض علي أنه الشيطان الرجيم.. وكما أسلفنا فإننا لن نتحدث عن هؤلاء الذين أصبحوا يجيدون التلاعب بكل القضايا المثارة لاحراز نقاط في بطولاتهم المزيفة والوهمية والقاء الحجارة علي الانجازات القائمة. ولكننا نتوقف طويلا وكثيرا عند آداء بعض الأجهزة المعنية بالتعامل مع المستثمرين ورجال الأعمال. وهناك عدد لا بأس به من القائمين علي تلك الإدارات والأجهزة الحكومية قد تربوا وتعلموا في أحضان حقبة الاشتراكية وقد وجدوا ضالتهم في الأجواء المثارة حاليا لتصفية الحسابات مع هؤلاء الأثرياء باعتبارهم مجرمين الي أن تثبت براءتهم.. وبطبيعة الحال نحن لا نتحدث عن المخالفات الثابتة التي يجري التحقيق بشأنها علي الرغم من التحفظ علي فترات الصمت الطويلة علي مثل هذه المخالفات التي تقع علي مرأي ومسمع من الجميع, ولكننا نشير فقط الي البعض من بقايا الاشتراكية في العديد من الدوائر ذات الصلة بحركة الاستثمارات أيا كان نوعها صناعيا وتجاريا وزراعيا وغيرها قد نشطوا وتحركوا بأقصي طاقة معتبرين أن هناك ضوءا أخضر لشن الحرب علي الاقطاعيين الجدد.. وقد لمست هذا بالمصادفة حينما طالب الموظف الصغير عددا من المستثمرين بإنهاء اجراءات تتطلب المرور علي الأجهزة المعنية والحصول علي تراخيص للبدء في النشاط, والاعتراض ليس أبدا في اتباع الأنظمة والقوانين وانما للمجهود الشاق الذي يذكرنا بحكاية الكعب الدائر لإثبات أن المشتبه به غير مطلوب في قضايا أخري.. إن الخشية كلها في ذلك الفهم الخاطي والتعميم المرفوض تجاه شريحة يجب الحرص عليها ورعايتها وتشجيعها في الوقت الذي نتفق فيه بلا أدني مجال للتردد علي ضرورة تطبيق القوانين الصارمة للحفاظ علي المال العام والمصلحة العامة.. وهذا يتطلب وعلي الفور توضيح المسارات الواضحة لضخ الاستثمارات في المجالات المنشودة والا يرتبط ذلك بالأشخاص أيا كانت مواقعهم ابتداء من الوزراء ووصولا الي صغار الموظفين وانما باستراتيجيات ثابتة وخرائط معتمدة, لأنه لا يعقل أن يحصل مستثمر علي موافقة وزير ثم يتغير الأمر بوجود وزير جديد, كذلك الحال في بطء اجراءات المواجهة للمخالفات الصريحة حيث نضطر الي هدم الأبراج العالية التي ينفق عليها الملايين ومع وجود أعداد هائلة من الشباب الباحثين عن السكن المناسب, ومع ذلك يجري الهدم دون البحث عن وسائل أخري لا تهدر فيها تلك الأموال فضلا عن الطاقات المستنزفة فيها, وهذا الأمر ينطبق علي حالات كثيرة نتابعها حين يتم هدم المنازل المخالفة علي الأرض الزراعية والتي ما كان لها أن تقام أصلا في الوقت الذي تصبح فيه هذه الأرض غير قابلة للزراعة من جديد بعد الهدم. انها نماذج وصور تثير المواجع وتطرح علي الحكومة والمسئولين ضرورة البحث عن أدوات جديدة لاحكام الرقابة مع فتح النوافذ قبل الأبواب للترحيب بالاستثمارات الجديدة.. ويبقي أن نأخذ في الاعتبار, أن الأصل في الصراعات العالمية والإقليمية هو البحث عن المصالح الاقتصادية بالدرجة الأولي, وأن هذه الصراعات تدور حول كعكة يجري تقسيمها حسب معطيات القوة الباحثة عن الثروات الطبيعية وفتح أسواق جديدة لمؤسسات تمثل امبراطوريات لا تغيب عنها الشمس ولا تعترف بالحدود السياسية.. وقد أدي نهوض الاقتصاد الصيني العملاق وعدد من الدول الناشئة الي زيادة التنافس مما يضيق هامش التحرك للاقتصادات المحلية الباحثة بدورها عن النمو والتقدم.. ومنذ أن دخلت مصر حلبة المنافسة فانها تثير خشية بعض الدول التي أرادت أن تكون مركزا إقليميا للتجارة والصناعة والمال, وقد جاءت الانطلاقة المصرية قوية ومحققة معدلات تتفق مع قدراتها وامكاناتها بالنظر الي موقعها الجغرافي الفريد وامتلاكها أكبر أسواق المنطقة, فضلا عن تأثيرها السياسي في دوائر محيطها العربي والإفريقي والإسلامي, وعلاقاتها المتوازنة مع بقية دول العالم.. وكلها عوامل إيجابية ينبغي الانطلاق بها وحتي لا تكون محاولات الردة لصالح اطراف ودول أخري تسعي بدورها الي التضخيم الإعلامي لملفات مطروحة يتم التعامل معها بكل الحسم وبدون التأثير علي المسار الاقتصادي الصحيح الذي يطلق الطاقات الكامنة ويطوي الي الأبد الثقافة الاشتراكية التي دخلت متاحف التاريخ. muradezzelarab@hotmailcom