حزين وكئيب وشديد القتامة..ساعاته ثقيلة وطويلة تمضي وكانها سنوات محسوبة بالتأكيد من عمرك!! رائحة الفقر التي تعشش في كل مكان حتما تقتحم صدرك وتدخل رئتيك دون اي استئذان لتختلط برذاذ الكحول المنطلق من تلك الافواه السمراء التي تشققت شفتاها وجفت بشرتها فلم تعد سوي هياكل عظمية متحركة في الظلام..!! اجساد عارية فقدت انوثتها منذ زمن بعيد علي يد الحرمان والجوع تتسكع علي نواصي الحواري الفقيرة في محاولة لبيع ماتبقي منها..!! هذا هو ليل الكونغو..!!! الليل في الكونغو يبدأ من السادسة وتحديدا عندما يغيب قرص الشمس معلنا انتهاء الحياة وبدا حالة من حالات الموت تصيب الشوارع والاحياء والمحلات والسوبر ماركات والمطاعم..!! الجميع يوصد ابوابه بالضبة والمفتاح خوفا مما يخفيه الليل خلف ستائره..!! لا ابالغ عندما اقول ان ارقي شوارع العاصمة الكونغولية يقع في براثن الظلام فما بالك بحواري وازقة وحوانيت كينشاسا..!! انت في نفسه قارئي..وكيف لايحدث هذا وانت في بلد لديه مشكلة حقيقية في ومضة النور ونقطة المياه.. علي الرغم من ان الكونغو تقع في المرتبة الثالثة في انتاج الكهرباء حيث انها تنتج13% من حجم الكهرباء العالمية الا انها تقع في براثن الظلام الدامس بل وعندما يغيب نور الشمس تشعر وانك قد عدت الي القرون الوسطي..وعلي الرغم من ان هذا البلد يمتلك كما لايوصف من الثروات والموارد المائية المتمثلة في نهر الكونغو وبحيرة تنجانيقا والعديد من البحيرات والروافد الا ان سكانها يعانون من العطش ولديهم مشكلة حقيقية في الحصول علي نقطة المياه ولا ابالغ عندما اقول ان الكثير منهم يستحمون في مياه المجاري وان المياه تباع في جراكن يصل سعر الواحد منها الي دولار وربع الدولار..!! ومثلها مثل الكثير من دول القارة السمراء تمتلك الثروات والموارد ولكن ليس لديها القدرة علي ادارتها وتوجيهها لذا غالبا ماتكون عرضة للنهب من قبل الدول الغنية!!! اعترف بأنني قد قاومت كثيرا تلك الرغبة الجارفة التي تدفعني دفعا الي خوض غمار الليل في هذا البلد..حذرني الكثيرون من دراكولات الليل الذين قد يعترضون طريق سيارتي ليتغذوا علي مافي جيوبنا..وجاءتني الاصوات مهللة منذرة بأنني بالتاكيد سأري مالايسرني من مشاهد تخجل وتقشعر لها الابدان..! ولكن الفضول الصحفي قد نجح بجدارة واقتدار الي ان يقودني وزميلي المصور الفنان حسام دياب الي ركوب جواد الليل واختراق بحور ظلماته بل والعيش مع دراكولات وخفافيش الظلام..! ما ان بدأت سيارتنا تتحرك وتتوغل في شوارع العاصمة كينشاسا حتي بدت الصورة واضحة وضوح الشمس..فتيات الليل في كل مكان من حولك في مشهد يجعلك تتوقف بل وتتأمل طويلا..يقفن شبه عاريات بملابس تستطيع ان تعرف من خلالها بأنهن اسطوات دعارة واخريات وفرن علي انفسهن فكرة الملابس ووقفن يعرضن اجسادهن للبيع عيني عينك.. تجدهن جالسات او واقفات او يتمشين بخطوات متثاقلة هنا وهناك ولكن سرعان مايقف وربما تستلسم اقدامهن للجري وراء السيارة التي تدخل الشارع..هذا ماحدث معنا بالضبط اذ فوجئنا بما يقرب من عشر فتيات يجرين وراء سيارتنا متحدثات باللغة الفرنسية التي لانجيدها فقط لم نفهم سوي كلمة شيري اعترف لك قارئي بانني قد ضبطت نفسي متلبسة بالحزن بل بمرارة لم يفارق مذاقها فمي الي هذه اللحظة التي اكتب فيها سطوري.. مشهد تلك الاقدام المتسارعة اللاهثة وراء سيارتنا كان جديرا بالتأمل والصمت والدهشة والاستغراب والحزن والشجن والسؤال الذي حاصرني هل هن يتصارعن من اجل بيع اجسادهن حبا في تلك الرغبة المتوحشة ام عشقا للمالا. هل خلقن ليجدن انفسهن بهذا الشكل..هل ماتت قلوبهن ومشاعرهن ام انه الحرمان والجوع والفقر والاحتياج والحوجة في هذا الزمن وفي ظروف مثل ظروف هذا البلد؟! اسئلة كثيرة دفعتني الي ان اطلب من مرافقنا ان اجلس جلسة مع فتيات الليل وهن جزء لايتجزأ من المجتمع الذي اقوم برصده ونقله اليكم. تعجب مرافقنا لرغبتنا وحاول ان يثنيني ولكنه فشل فما كان منه الا أن انطلق مسرعا متجها نحو احد بارات الليل في شوارع العاصمة الكونغولية. كينشاسا. بارات الكونغواشكال والوان وانواع وطبقات مابين الخمس نجوم في الفنادق..والكافيتريات المغلقة وصالات الديسكو وبارات الدرجة الخامسة وليست الثالثة فحسب.. وهي تلك المتناثرة في شوارع العاصمة..اضواء خافتة وبعض الكراسي البلاستيكية المتهالكة..وجميع انواع الخمور وخاصة البيرةالشعبية..اذن فهو مقصدنا الدرجة العاشرة ومرتادوها الذين يعدون الاغلبية الساحقة في الشعب الكونغولي..ما ان جلسنا وتوسط مرافقنا تلك المنضدة الفقيرة الا وفوجئنا بحصار من الفتيات3 علي اليمين و4 علي الشمال..وسرعان مانزلت زجاجات البيرة الكونغولية وفتحت علي مصراعيها..!! رحت في حالة تأمل لتلك الجلسة وسألت نفسي كثيرا من أين أبدأ معهن وهل يرضين الحديث معي..؟! أجابني مرافقي الذي ربما شعر بحالتي قائلا تستطيعين أن تسألي ما تريدين وسوف أقوم بدور المترجم.. فقلت له.. أريد أن أعرف ببساطة ظروف حياتهن ولماذا يسلكن هذا السلوك وهل لم يوجد بديل عن هذا العمل..؟! راح الرجل يترجم لهن ورحت أنا أتأمل تلك الوجوه الفقيرة السمراء التي خلت من أي أنوثة فلقد حلت محلها ملامح وتجاعيد الفقر وبدت متلهفة علي زجاجة بيرة ولقمة عيش تسد بها رمقها.. راح مرافقي يترجم لي ما قالته الفتاة الأولي التي تحدثت بجرأة شديدة وبعيون ثاقبة ناظرة لعيني تماما, بدأت سوني حديثها قائلة... لدي طفلان من زوج كونغولي تركني وترك أسرتنا وذهب إلي أنجولا ولا أعرف شيئا عنه منذ خمس سنوات, تزوجنا بعد قصة حب ونجحنا في أن نتزوج بعد أن حملت بين أحشائي طفلتي الأولي وبعد أن أنجبت الثانية ضاقت الظروف أكثر وكثرت الخلافات فما كان منه إلا أن تركني وغادر البلد كله.. حاولت البحث عن عمل ولكني لم أجد.. والأجور قليلة جدا إن وجد هذا العمل, لذا فضلت أن انطلق في الشوارع فهي أحن شيء علينا في هذه الدنيا.. انزل للعمل من السابعة مساء وقد أعود لأولادي في الخامسة صباحا حسب طلب الزبون.. أعود وقد تناولت وجبة العشاء وفي جيبي بعض من الدولارات عندما سألتها عن الثمن الذي تتقاضاه في الليلة الواحدة.. قالت لي حسب عدد الزبائن فالزبون الواحد يدفع عشرة دولارات ويمكن لي أن أعود بعد العمل مع أربعة رجال أي أربعين دولارا وهذا بالطبع مبلغ يجعلني من الأثرياء في الكونغو.. أما الفتاة الأخري فكانت مقتضبة جدا في حديثها معي واكتفت بالقول انني ليس من حقي أن أخذ من وقتهن ثم انك أجنبية.. أنتم لا تريدون منا سوي سرقة ثرواتنا وكنوزنا وانتم المستفيدون الأوائل من خيراتنا, ونحن نعيش كمطاريد وأعتقد أنه ليس من الاحترام والذوق أن تجلسي معنا وتتفرجي علينا.. فهذا أمر مرفوض.. كاد مرافقي يعنفها أثناء الحديث ولكني تدخلت في الوقت المناسب واعتذرت لها وقلت انني لا أنظر اليهن كأنهن في قفص الاتهام بل بالعكس أنا أحاول أن أرصد الظروف السيئة التي دفعتهن دفعا لهذا العمل.. مارني الفتاة الثالثة التي كانت تجلس في هدوء ممسكة بكوب من البيرة تحتسيه بغرام شديد وكأن شيئا لم يكن.. نظراتها إلي كانت كفيلة بأن تشعرني بأن لديها ماتريد قوله فطلبت من مرافقي أن يقول لها أريد أن أسمعك.. ابتسمت في هدوء قائلة: لسنا البلد الوحيد الذي يعاني بل معظم الدول الافريقية تعاني هي الأخري.. لقد درست التاريخ وعشقت الجغرافيا وعشقت مصر والمصريين وحضارة الفراعنة والأهرامات وطالما حلمت بزيارة بلدكم العظيم.. انتم كما يلقبونكم حضارة السبعة آلاف عام.. ولكن اسمحي لي أن أقول لك اننا وقفنا بجانبكم في حربكم مع عدوكم اللدود وانتم وقفتم معنا في استقلالنا كما فعلتم مع معظم الدول الافريقية لكن أين أنتم الآن..؟! ماذا فعلتم من أجلنا؟ لقد تركتمونا في نصف الطريق نحن نريدكم أن تقتربوا منا.. من مشاكلنا.. أي يكون لكم دور حقيقي معنا. أعطونا فرصة أن نستفيد من خبراتكم.. لقد درست في احدي الجامعات بالكونغو وحلمت أن أكمل دراستي في جامعة القاهرة لديكم ولكن للأسف لم أستطع تحقيق هذا الحلم لأن وقتها لم يكن لديكم ما يسمي بالمنح الدراسية والبعثات وكان علي أن أدفع مبلغا كبيرا من المال فانكسر الحلم.. فاجأني حديثها وأحسست بأنها هوية مختلفة من النساء وساقني فضولي لأعرف ما الذي دفع بتلك المثقفة الجامعية لتتحول لفتاة ليل. الحق انها رفضت الاجابة عن تساؤلاتي ولكنها قالت لي كلمة واحدة إن تحت خط الفقر يمكن للإنسان أن يبيع عضوا من أعضائه وليس جسده في الجنس فقط..!!!!. بحديثها كنت أصبت بحالة من الاختناق.. حالة دفعتني إلي أن أغلق أوراق ملف الليل المعجون بالدموع والشجون ومع إحكام اغلاق غرفتي الصغيرة في الفندق وجدتني أردد لو كان الفقر رجلا لقتلته.