كيف يمكن لنا ان نفسر الحوادث المؤسفة التي مازالت تدور بين المحامين والقضاء؟ وما هو تفسير الانفلات الشديد في السلوك العام الذي يبديه المحامون بنقابتهم العامة ونقابتهم الفرعية منذ اندلاع الازمة وما هو الطريق لحل الأزمة؟ وهل تصلح الحلول السطحية التي تدعو للصلح بين طرفي الازمة ام أن هناك حاجة الي مواجهة الأسباب الحقيقية التي أدت إليها, وخصوصا العوامل المتعددة التي أدت إلي تخريب وحدة وتماسك الجماعة القانونية بكل اطرافها ونعني المحامين ووكلاء النيابة والقضاة؟ كل هذه اسئلة بالغة الاهمية وتحتاج للاجابة عنها لتحليل تاريخي واجتماعي وسياسي. وليس هناك شك في ان احد المنجزات الحقيقية لثورة يوليو1952 هو مبدأ تكافؤ الفرص. ويعني هذا المبدأ اساسا الاعتداد بقيمة المساواة بين الناس من ناحية واحترام الكفاءة والتفوق والانجاز, والقضاء علي الظواهر السلبية مثل المحسوبية والواسطة التي تؤدي عملا الي استبعاد المتميزين والتحيز للعناصر عديمة الموهبة والكفاءة. وحتي لا يكون حديثنا علي سبيل التجريد دعنا نتحدث من واقع التجربة التاريخية والخبرة الشخصية معا عن موضوع محدد اصبح في الوقت الراهن مثارا للجدل الشديد, وهو تعيين خريجي كليات الحقوق في الوظائف القضائية واهمها علي الاطلاق النيابة العامة ومجلس الدولة وهيئة قضايا الدولة. وانا اتحدث في هذا الموضوع عن خبرة شخصية مباشرة, لانني حقوقي حصلت علي الليسانس في القانون من كلية الحقوق بجامعة الاسكندرية عام1957 بتقدير جيد. ما اهمية ذكر التقدير هنا؟ لانه بناء عليه يتم التعيين في الوظائف القضائية المتميزة التي اشرنا اليها. بعد ثورة1952 تم في هذا المجال التطبيق الدقيق لمبدأ تكافؤ الفرص, وكان الاجراء المتبع ان الهيئات الثلاث ونعني النيابة العامة ومجلس الدولة وهيئة قضايا الدولة تحصل علي بيانات الناجحين في ليسانس الحقوق لتختار منهم ابتداء لمن حصلوا علي تقدير امتياز وهؤلاء عادة ندرة ثم تقدير جيد جدا وتعيينهم مضمون لتميزهم ثم تقدير جيد بمجموع درجات متميز. وكانت خطابات التعيين تصل الي هؤلاء الخريجين المتميزين بلا واسطة ولا محسوبية ويبدأون حياتهم كل في مجاله وفقا لتقاليد راسخة بالنسبة لكل وظيفة من هذه الوظائف في مجال التنشئة القانونية ان صح التعبير. يخضع مساعد النيابة الحديث لتدريب منظم من قبل اعضاء النيابة الاقدم ويعلمونه اساليب العمل, وقبل ذلك تقاليد العمل بالنيابة ومن زاوية المعايير الاخلاقية والالتزام بضوابط السلوك المهني. بالنسبة للمندوب المساعد في مجلس الدولة عليه ان يحصل علي دبلومين من دبلومات الدراسات العليا في القانون حتي يرقي من بعد الي وظيفة مندوب ثم يتدرج الي ان يصبح مستشارا. وفيما يتعلق بمن يعين في هيئة قضايا الدولة فإنه يتلقي تدريبا اساسيا قبل ان يكلف بالدفاع عن الدولة في القضايا المختلفة. واقطع بأنه بالنسبة لسنوات عديدة بعد ثورة يوليو1952 لم يعين اطلاقا في الهيئات الثلاث من حصل علي درجة مقبول! وبالنسبة لي شخصيا وقد حصلت علي تقدير جيد في الليسانس لم احصل علي مجموع الدرجات الذي يسمح لي بالتعيين في النيابة حلم اي حقوقي او في مجلس الدولة او في هيئة قضايا الدولة. وشاءت الظروف ان انجح في مسابقة صعبة اعلن عنها المعهد القومي للبحوث الجنائية, وهكذا عينت باحثا مساعدا عام1957 بالمعهد وكان علي ان احصل علي درجة الماجستير حتي ارقي لدرجة باحث. وهكذا كانت هناك فيما يتعلق بالعمل في الهيئات القضائية تقاليد راسخة في ظل مبدأ تكافؤ الفرص, وهذه التقاليد التي حرصت علي اختيار الخريجين المتميزين في كلية الحقوق هي التي ادت الي تميز الجماعة القانونية المصرية ووجود قضاء مصري رفيع المستوي, بل ان هذا المستوي ذاته هو الذي سمح بالارتقاء مهنيا بالمحاماة. وهكذا شهدنا لسنوات طويلة في قاعات المحاكم المرافعات القانونية رفيعة المستوي لمحامين افذاذ لم يكونوا يقلون اطلاقا علما ومعرفة عن القضاة المحترمين الذين يترافعون امامهم. غير ان هذه التقاليد الراسخة في تعيين الحقوقيين انهارت للاسف الشديد مع مرور السنوات حين بدأ التدهور في مجال القيم الاجتماعية التي تحكم السلوك في المجتمع المصري. وهذا التدهور القيمي له اسباب متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية وقد نحاول مناقشة ظواهره السلبية المتعددة في المستقبل. ما يعنينا الان هو ان قيمة تكافؤ الفرص سقطت واصبح التعيين عموما في الوظائف الحكومية بالواسطة والمحسوبية ماعدا بعض الهيئات الحكومية التي اصرت علي تطبيق معايير الكفاءة بكل صرامة حفاظا علي مستواها. و بدأ التمرد علي قاعدة تكافؤ الفرص من قبل بعض اعضاء الجماعة القانونية ذاتها وعلي وجه الخصوص المستشارون في مجلس الدولة وفي القضاء. لاول مرة في التاريخ القضائي المصري اصبح يعين من حصلوا علي تقدير مقبول في ليسانس الحقوق سواء في مجلس الدولة او في النيابة العامة وخصوصا من ابناء او اقرباء المستشارين. وهذه سلبية بالغة الخطورة لأنه من شأنها ان تدخل في الهيئات القانونية اعداد من غير المتميزين مما سيؤثر بالضرورة علي ادائهم المهني في المستقبل واخطر من ذلك اصبح يتم استبعاد عدد من الحاصلين علي تقدير جيد جدا وتقدير جيد علي اساس طبقي قبيح سبق للثورة ان قضت عليه وهو مايطلق عليه عدم اللياقة الاجتماعية ! بعبارة اخري خريج الحقوق الحاصل علي تقدير جيد جدا يستبعد من التعيين احيانا لانه ينتمي الي عائلة فقيرة في حين يعين من حصل علي تقدير مقبول ضد كل القواعد والمعايير بالواسطة وعلي اساس انه نتمي الي عائلة ميسورة! لقد ادت هذه الممارسات غير القانونية الي اختناق شديد في صفوف خريجي الحقوق الذين يتقابلون في قاعات المحاكم, بعضهم محامون متميزون كان من حقهم التعيين في النيابية العامة, ولكنهم حرموا من ذلك لأسباب غير قانونية وبعضهم وكلاء نيابة ممن حصلوا علي تقدير مقبول ولكنهم عينوا ضد قواعد القانون لانهم ابناء مستشارين او ابناء اهل السلطة. غير ان هناك سلبية خطيرة اخري نجمت عن تعديل في برامج كلية الشرطة كان حسن النية, لانه اراد الارتفاع بمستوي ضباط الشرطة. كان ذلك في عهد السيد زكريا محي الدين حين كان وزيرا للداخلية. تقرر تعديل برامج كلية الشرطة بحيث يحصل الطالب علي ليسانس الحقوق بعد دراسة لكل المواد القانونية التي تدرس في كليات الحقوق. وهكذا اصبح كل خريجي كلية الشرطة يحصلون علي الليسانس في القانون. ويحدث بعد التخرج والعمل كضابط في الشرطة ان يستقيل بعضهم ويعين في النيابة العامة او في مجلس الدولة. وهذه المسألة في غاية الخطورة. لأن التنشئة المهنية مختلفة تماما بالنسبة لضابط الشرطة وبالنسبة لوكيل النيابة او عضو مجلس الدولة. وهكذا نجد بين القضاة الآن من كانوا من قبل ضباطا في الشرطة كما نجد في كليات الحقوق اساتذة كانوا من قبل ضباطا في الشرطة. وبالرغم من انه بين هؤلاء وهؤلاء عناصر متميزة الا ان الخلط بين الادوار يؤدي الي ممارسات مهنية معيبة في بعض الاحيان. وهذا الموضوع بالرغم من حساسيته يحتاج الي مواجهة شجاعة حتي تظل الفروق قائمة بين كل مهنة واخري. لان التنشئة المهنية والاخلاقيات الملازمة لكل مهنة بالغة الاهمية. خذ مثلا المعيد الذي يعين في احدي الكليات لتفوقه. هو يدرب علي يد اساتذة تدريبا راقيا علي قواعد البحث العلمي وعلي الامانة العلمية وينضج علي مهل حتي يحصل علي درجات ويصبح استاذا. وكذلك وكيل النيابة وضابط الشرطة. ولكن حين تختلط الاوراق ويصبح نتيجة لسياسات متخبطة ضابط الشرطة وكيلا للنياية او قاضيا او استاذا في كلية الحقوق, فإن في ذلك ضياعا للقيم واخلالا بالمعايير, وللحديث بقية.